رافي مصالحة في مقاله:
نحن في وطننا معزولون، منسيون، منزوعو الهوية والكيان، نداس وتداس حرياتنا في كل لحظة وفي كل شبر من الأرض
أنحن جزء من الشعب الفلسطيني والأمة العربية، أم إسرائيلّيون؟
ها نحن هنا باقون فزجّ المحتلون بقواتهم الأمنية
لن أعفي احدا... إن اللذين يتشدقون بالإنتماء والحس الوطني قبيل كل موسم انتخابات برلمانية، لتجدهم في يوم الأرض بالذات يسيحون في البلاد على متن طائرةٍ متذرّعين بالإلتزامات
خير ياسين، رجا أبو ريا، خضر خلايله، خديجة شواهنة، محسن طه، ورأفت الزهيري.
ليست هذه أسماء ككل الأسماء، وليس أصحابها ككل الناس. وعدا شواهد القبور التي تحملها في عرابه وسخنين وكفركنا ونور شمس، فنحن نتحدث عن رموز ملحمة بطولة اسطورية كجلجميش والالياذه، كتبت بالدم، وأنارت الدرب أمام كل حر اختار طوعا كسر قيده ليتحرر من خانة الصمت والعزلة والخوف. لقد علمتنا هذه الأسماء أن حب الأرض هو أسمى عبادة، وأن الموت من أجلها هو ذروة الحياة والولادة. علمتنا هذه الأسماء كيف نتحرر من عقد الوهم ونسف كوابيس الوهن والجبن لكي نغرس مكانها الإرادة.
نحن في وطننا معزولون، منسيون، منزوعو الهوية والكيان، نداس وتداس حرياتنا في كل لحظة وفي كل شبر من أرض كانت بالأمس عنوان كرامتنا ووجودنا وملهمة للشعر والعتابا والميجنا، واليوم صودرت، ومعها صودرت الكرامه وسلب الحلم وأخرست الحسرة والقهر كل الأبيات الشعرية. نحن منكوبون بالكبت. مقيمون، لكنّا مشبوهون، مؤقتون، مهمشون، عابرون، وغير مرغوب فينا. والمعضلة الأنكى تكمن في الأحجية: انحن جزء من الشعب الفلسطيني والأمة العربية، أم "إسرائيلّيون" قابلون للتّدجين والترويض داخل مؤسسات دولة ذات بنية استعمارية، عنصرية محتلة، يراد بنا اتقان المهن لتسخيرنا عبيدا أو آلات مشلولة فكريا، كي نبني على جراحنا المزيد من صروحهم؟.
لن أتحدث عن قيمة الدم العربي البخسة في عيون حكماء صهيون كما استخلصنا من عبرة كفرقاسم، ولن أسرد تفاصيل ذبح ثلاثة عشر شابا، قتلتهم اسرائيل بدم أبرد من الجليد، دفنتهم ومعهم دفنت آثامها. لست بالمؤرخ ولذا لن أخوض في وثيقة "يسرائيل كيننغ" التي بيَّن فيها خطر النمو السكاني للعرب، ودعا إلى تهويد الجليل عبر تكثيف الإستيطان اليهودي فيه، وإقتلاع العرب منه وتهجيرهم بشتى السبل.. ولن أتطرق إلى الإستيلاء على منطقة "المل" الواقعة ضمن مدى أراضي "ديرحنا" و"سخنين" و"عرابة" الجليل، ولا الروحه، ولا لسلب أراضي النقب وطرد أهلها منها ولا لأراضي عين ماهل، وكفركنا والمشهد والرينه التي أغتصبت لتقوم الناصرة اليهودية (وبالنمط الإستعماري ذاته قامت أيضا كرميئيل وغيرها).
لم ينسدل الستار بعد عن مسلسل القهر والإذلال، ويوما ما، في 30 اذار 1976 تحديدا بزغت شمس جديدة لتسلط النور على تصميم شعب كان أقوى من أن يُردّ. فلاحون وعمال وتلاميذ وربات بيوت، كلهم حركهم محفز واحد، داسوا مفاهيم الأستكانة والخذلان، خرجوا الى الشوارع، وإنطلقت التظاهرات في كل بلد وفي كل حارة لتزداد زخماً وقوة واتساعاً لتصيح ويصل صوتها الآفاق: "ها نحن هنا باقون". فزجّ المحتلون بقواتهم "الأمنية" (يا للسخريه !) لتبطش بالمدنيين العزل الذين تجرؤوا على تحدي القوى التي لا تقهر، بعدما اعتقدوا أنهم "روّضوهم" على قبول الضيم والجور كأمر مسلم به أو كقدر لا مَرَدَّ له.
ولكن الذي يفطر القلب حزنا، أن في بلادي قيادات من "المرابطين"، أما على مقاعد برلمان اسرائيل أو على مقاعد السّلطات (بضم السين واللام لا بفتحهما !) المحليّة يسوِّقون أنفسهم على أنهم "زعامة" الأقلية البائسة في هذه الربوع المنكوسة، تارة في لجنة متابعه وتارة في محفل آخر (تعددت التسميات والمصيبة واحده) حرصوا على مر السنين (وبأسلوب الفطام عن إدمان الآفيون، بجرعات متناقصه) على محو ذاكرة الأرض ويومها ليس فقط من المنهاج المعتمد الهزيل المريض لوزارة التجهيل الإسرائيلية بل من واقع الناس ومن بيوتهم ومدارسهم ومقاهيهم وبيوت عبادتهم. سلبتنا اسرائيل الأرض وجاءت قياداتنا لتسلب من الأرض يوم عيدها. صار حريّ بك أمام هذه السخافة المؤلمة أن تحتفل بيوم عطارد أو زحل بدل يوم الأرض. قد لا يدرك البعض حجم الجريمة المرتكبة في هذا السياق، ذلك أن طمس معالم يوم الأرض هو بمثابة منح الشرعية للهيمنة المؤطرة التي تُمارَس بمنهجيّةٍ عنيدة وبنحو يوميّ على وجودنا وفكرنا وهويتنا وانتمائنا، وترسيخٍ لمصداقيّة الممارسات الإسرائيلية في صلب معتقدات أجيالنا التي لم تعِ يوم الأرض الأول.
لن أعفي احدا... إن اللذين يتشدقون بالإنتماء والحس الوطني قبيل كل موسم انتخابات برلمانيه، لتجدهم في يوم الأرض بالذات يسيحون في البلاد على متن طائرةٍ متذرّعين بالإلتزامات التي باضت وفقست وفرخت بمحض الصدفه (سبحان الله) في يوم الأرض. والمعلم الذي على كاهله رسالة توعية تلميذه بقدسية الأرض، صمت رهبةً من قدسية عيون المخابرات التي يعتقد أن بيدها رزقة، تحيي وتميت وهي على كل شيء قديرة. ومن منابر الأئمة في المساجد تصدح الدروس والعبر (بيوم الأرض بالذات) في مبطلات الوضوء ونصاب الخيل وشروط الذبيحة، ودون أيّ نيّة انتقاصٍ (حاشا لله !) من مكانة الأديان أتساءل: أهذا فعلا ما يهم العامّة من الأمور المُلحَّه في يوم يمتُّ لجميعنا في صميم حياتنا وعقيدتنا؟!.
يا زعاماتنا المزعومة، لن أخجل أن اقول لكم أن التاريخ يلفظ الأمم والشعوب اللامبالية بحقوقها ومصائرها والمستكينة لظالميها، لكنه يفتح أبوابه لمن يدقها من الشعوب الحية ذات الإرادة، لا سيماً إذا ما قرنتها بالوعي والتنظيم والوحدة والإستعداد لبذل التضحيات، كما تجلى في هبة "يوم الأرض" المجيد الذي سجلت فيه دماء الشهداء والجرحى وعذابات المعتقلين نهاية عهد التواكل، وسقوط المراهنات على إمكانية التعايش بسلام مع المحتلين العنصريين، وبدء عهد الإنتقال من العمل السياسي المُجزأ، إلى العمل الجماهيري الواسع المنظم الذي تشارك فيه الجمهرة الفاعلة من أبناء الوطن.
فلتصحُ الضَّمائر، ولندع أصداء وصور هذا اليوم الباسل تتردّد لدى عموم أهالينا في كل مناطق تواجدهم، وتُستعاد ذكراه كلّ عام كموقعةٍ مميّزة بارزةٍ في تاريخهم النضاليّ المعاصر، ضد الغزوة الفكرية الضروس التي لن تضع اوزارها يوما ازاء أرضنا وهويتنا الوطنيّة، ولنقف جسدا واحدا دفاعا عمَّا جاهد من أجله - فقاتلوا وقتلوا وأُخرِجوا من ديارهم - الآباء والأمهات والأجداد والجدات من قبل، وعما ينبغي على الأجيال مواصلة النضال لأجله: الهوية، والوطن، والحرية، والسيادة. أيها الشعب السجين: أشهر سلاحك، وكِرّ ولا تفِرّ، لتحوز ما هو الأثمن والأهم في حياة الشعوب: تحرير وعيك من الأوهام، وإطلاق إرادتك في مباشرة العمل "بذاتك" و"لذاتك"...
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net