سقوط المحكمة العليا/ بقلم: البروفيسور أحمد ناطور

كل العرب
نُشر: 01/01 11:04,  حُتلن: 19:09

البروفيسور أحمد ناطور في مقاله:

المحكمة قد تبنت مرارًا دور الختم المطاطي لاضفاء الشرعية على ممارسات السلطة التعسفية سواء كانت هذه السلطة عسكرية

ليس لأحد أن ينسى دور هذه المحكمة المستهجن في المصادقة على هدم بيوت الفلسطينيين ممن تتهمهم إسرائيل بالمشاركة في الكفاح المسلح

المحكمة بلغت ذروة دالة سقوطها الأسبوع الماضي حين اقرت اجراء قانون أملاك الغائبين الجائر على القدس الشرقية وهو قانون ما كان الا للاستيلاء على أملاك الفلسطينيين

صحيح أنّ عهد القاضي غرونيس، كرئيس للمحكمة العليا، كان سِمَة من سمات تدهور مكانة المحكمة العليا في عهد العنصرية الذي اتخذته هذه الدولة نهجًا معلنًا في السنوات الأخيرة، فقد تمادت محكمته بصفتها محكمة "عدل" عليا بالسقوط والتهاوي، إثر فشلها الذريع في حماية مبادئ الديمقراطية والدفاع عن حقوق الأقليات، الا أنّ الحقيقة هي أنّ هذه المحكمة قد اعتبرت نفسها منذ زمن بعيد أداة فاعلة في خدمة المؤسسة الصهيونية الأمنية، الاستيطانية والعنصرية. بل وشكلت مظلة واقية لسياسة انتهاك الحقوق واضفاء الشرعية على الاحتلال وموبقاته الى جانب التمييز العنصري بين مواطني الدولة ذاتها.

كان من بين قضاة المحكمة العليا، من تبنى منذ زمن بعيد مبدأ "عدم النضوج"، المستورد من القضاء الاميركي في قضيّة "Abbott laboratories Vs. Gardner "، الا انهم استخدموه في غير محله يوم سخروه كطريقة للافلات من مغبة الخوض في مسائل تمس الحقوق الأساس لأبناء الأرض المحتلة، وذريعة لرد التماساتهم ضد الدولة واذرعها العسكرية والإدارية وذلك بذرائع شكلية واهية. فمن ناحية توهم المحكمة من يطلب منها العدل على قدرتها على انصافه، ومن ناحية أخرى - وبعد سنوات من الذهاب والإياب والتداول المضني تقرر أنّ القضيّة ليست ناضجة للعرض امام المحكمة، لأنّها لا زالت نظرية او أنّ القانون لم يدخل حيز التنفيذ بعد. مثاله: قضيّة صلاحات، الذي استنجد بالمحكمة العليا ضد تعذيبه من قبل محققي المخابرات في دهاليز التحقيق. وحين انتقدت أداء المحكمة المتدني هذا امام الرئيس براك، قال لي: خلص، ذهب الذي كان يفعل ذلك! ولم يدر أنّه سيأتي بعده رئيس يجعل هذا الأسلوب نهجًا رتيبًا.

لقد عاد رئيس المحكمة المنتهية ولايته – غرونيس، ليستخدم بزخم واضح هذا الأسلوب، كي يصد استرحام الفلسطينيين في الأرض المحتلة. فمن ناحية واحدة يفتحون أبواب المحكمة أمام المظلومين جراء ممارسات الاحتلال، فيكسبون بذلك صورة مفتعلة لدولة ديمقراطيّة تفتح القضاء أمام المظالم، الا أنّهم في الحقيقة يصدون هذه الالتماسات باعذار شكليّة.

بذريعة أخرى - وهي التمييز بين ما اسمته مساواة شكلية ومساواة جوهريّة، ردت المحكمة العليا التماس عدالة ضد وزير الأديان بما يتعلق بالتمييز في تخصيص الميزانيات للطوائف العربية المختلفة، وتكون بذلك قد شرعنت مرة أخرى التمييز بين المواطنين وفقًا لانتماءاتهم الدينيّة والعرقيّة. هذا، ويعجز التعبير في وصف ما فعلت المحكمة العليا حين سمحت بهدم مقبرة مأمن الله التاريخية في القدس الشريف واذنت ببناء ما يسمى بمتحف " التسامح بين الأديان " على عظام موتى المسلمين.

ومن كان يعتقد أنّ هذا التوجه بشكله العام يعود الى سياسة غرونس القضائية، فهو مخطئ، لان شمغار وبعده براك، كانا أيضا شركاء في قرارات جدلية، منها المصادقة على اجلاء 415 من أبناء حركة حماس يوم 17.12.1992 الى مرج الزهور في لبنان بأمر من حكومة رابين. ويبدو أنّ المحكمة العليا قد آثرت يومها أن تصطف في صفوف اجماع الرعاع من المجتمع اليهودي الذي ملا الفضاء صراخًا وعواء تأييدًا ودعمًا للإجلاء. لقد آثرت المحكمة أن تتبنى موقف أجهزة الأمن المطالب بطردهم - مع أنّ هذه العملية تناقض المعاهدات الدولية ومبادئ العدل. وقد انتقد هذا النهج العجيب جملة من أساتذة القانون منهم نجبي وبنبنيشتي. ليس هذا فحسب، بل أنّ المحكمة قد تبنت مرارًا دور الختم المطاطي لاضفاء الشرعية على ممارسات السلطة التعسفية، سواء كانت هذه السلطة عسكرية - امنية او إدارية او حتى تشريعية، كما جرى بشان قانون (مؤقت ) المواطنة والدخول الى إسرائيل، الذي منع جمع شمل افراد العائلة الواحدة من الفلسطينيين.

لقد ردت المحكمة الالتماس المقدم اليها (2012) لإلغاء هذا القانون الذي يقضي بتمزيق العائلة الواحدة إن كان أحد افرادها من الأرض المحتلة فزادت سقوطًا على سقوطها يوم أضفت الشرعية على قانون أقل ما يقال فيه أنّه غير انساني لأنّه يلغي أبسط الحقوق الأساس للإنسان الفلسطيني. ولا ضير إن نحن ذكرنا انها كانت قد فعلت الشيء ذاته من قبل حين ردت التماسات مماثلة سنة 2006 لالغاء القانون، وذلك استنادا الى تعليل هزيل مضحك – مبكٍ وهو أنّ القانون مؤقت وسينتهي تلقائيًا عند انتهاء سريانه، وتساءلت ما الحاجة اذا للخوض فيه؟!، ذلك مع علم القاضي ادموند ليفي – صاحب هذا التعليل، بأن الحكومة بمصادقة البرلمان تجدد مفعول القانون كل مرة من جديد.

لقد بلغت المحكمة ذروة دالة سقوطها الأسبوع الماضي، حين اقرت اجراء قانون أملاك الغائبين الجائر، على القدس الشرقية، وهو قانون ما كان الا للاستيلاء على أملاك الفلسطينيين الذين هجروا من ديارهم وحتى الحاضرين منهم من أجل تسخيرها في خدمة الاستيطان والتهويد. بهذا الصدد قررت المحكمة العليا أنه يجوز إجراء هذا القانون على أملاك من يسكن في الضفة الغربية الواقعة في القدس حتى لو كان يبعد أمتارًا معدودة عن حدود البلدية الإسرائيلية – وذلك بشكل محدود وبموافقة المستشار القضائي للحكومة. اما المستوطنون الذين ينتشرون في الضفة الغربية كالجراد المفجوع، فلم تصادر املاكهم الواقعة داخل الخط الأخضر مع انهم غائبون وفقا لتعريف القانون بحكم كونهم يعيشون على "ارض العدو". وان كان هذا التعسف ليس كافيًا فقد ذهبت المحكمة العليا لتشرعن قانون المقاطعة الذي عُرض على المحكمة العليا من أجل الغائه لانه مخالف لحقوق الانسان الأساس. اما المحكمة فقد عادت هذه المرة أيضا لتضرب عرض الحائط بمبادئ حرية التعبير وصادقت عليه مع ملاحظات طفيفة. بذلك تكون المحكمة قد اقرت قانونا كاتما للحريات بشكل صارخ حين يلقي مسؤولية تقصيرية على من يدعو الى مقاطعة المستوطنات ومنتجاتها ومؤسساتها، فمن يفعل ذلك في " واحة الديمقراطية والحريات" بعد اليوم، يعرض نفسه لدعاوى قضائية تضررية اذا ثبتت السببية في الضرر. كل هذا مع أنّ النداء بمقاطعة المستوطنات هو حق من حقوق التعبير السياسي.

ولما كان تسارع الساقط يزداد كلما زاد سقوطًا، فقد قررت المحكمة العليا أيضا منع الأسرى الفلسطينيين من الالتحاق بالتعليم العالي في الجامعة المفتوحة، مع أنّ هذا الحق محفوظ للسجناء الجنائيين، مدعية أنّ التمييز بين الفريقين لا يعتبر في عرفها تمييزا!

هذا، وليس لأحد أن ينسى دور هذه المحكمة المستهجن في المصادقة على هدم بيوت الفلسطينيين ممن تتهمهم إسرائيل بالمشاركة في الكفاح المسلح – مع الإشارة الى أنّ أيا من اليهود الذين قاموا بعمليات إرهابية ضد العرب - مهما كانت بشاعة عملهم هذا، لم يهدم له بيت أو حتى سقيفة.

لقد قررت المحكمة العليا مرارا وتكرارا – بصفتها محكمة "عدل " أنّ سياسة هدم البيوت هذه هي سياسة مشروعة، مع أنّ هذا مناقض بشكل وجاهي للقانون الدولي، بل انه يناقض قرارات المحكمة العليا نفسها. إن هدم بيت عائلة متهم بالكفاح المسلح هو عقاب جماعي بامتياز، ضد العائلة بأكملها بما فيه أولادها ونساؤها وشيوخها. وطبيعي ان هؤلاء لا شأن لهم بتهمة المشاركة في الكفاح المسلح. ورغم ان مجموعة من جمعيات حقوق الانسان قد قدمت التماسًا الى المحكمة العليا ضد سياسيّة هدم البيوت سنة 2014 الا أنّ هذا الالتماس كغيره قد رد هو الآخر من قبل المحكمة.

ولا ندري إن كانت هذه المحكمة تعي انها بنهجها هذا، تضع أذرع سلطة دولتها نفسها، التي تجهد في حمايتها - بما في ذلك الموظفون والعمال الذين ينفذون عمليات الهدم بموجب قراراتها، تحت طائلة المسؤولية الجنائية الدولية – وفقا لمعاهدة روما، ومعهم المستشارون القضائيون وحتى قضاة المحكمة العليا انفسهم.

بعد هذا كله، فإن التساؤل أين "العدل" وأين "العليا" في محكمة العدل العليا، يبقى تساؤلًا انكاريًا لا ينتظر جوابًا، وبذا فقد صح فينا القول: كالذي ينتظر الدبس من النمس.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة