د.مصطفى يوسف اللداوي في مقاله:
ملايين العراقيين تركوا بيوتهم وتخلوا عن ممتلكاتهم وتركوا خلفهم ذكرياتهم والكثير من متعلقاتهم هاربين من أتون الحرب وجحيم الموت
ندعو الله في هذا الشهر الفضيل ألا يطيل أزمته وأن يعجل في إخراجهم وبقية الشعوب العربية من مصيبتهم ونجاتهم من محنتهم
لم تعد نكبة فلسطين هي النكبة الأكبر والأكثر هولًا بين شعوب الدول العربية، وإن كانت هي الفجيعة الأولى والصدمة الكبيرة، تلك النكبة التي تسببت في لجوء أكثر من نصف مليون مواطن فلسطيني إلى دولٍ عربيةٍ مختلفة، في شتاتٍ ممزقٍ للشعب الفلسطيني كان هو الأول الذي يواجهونه في القرن العشرين، فضلًا عن لجوء كثيرٍ منهم جنوبًا إلى قطاع غزة أو وسطًا إلى الضفة الغربية، تاركين خلفهم بيوتهم ودورهم وبساتينهم وكل شيء يملكونه، بعد أن قامت العصابات الصهيونية بإرهابهم وطردهم من بلداتهم وقراهم الأصلية.
تلا لجوءَ النكبةِ نزوحُ النكسة، فلجأ اللاجئون من جديد، وطرد المطرودون مرةً أخرى، وفتحت مخيماتٌ جديدة، ومجمعاتٌ فلسطينية أخرى، حشر فيها الفلسطينيون، وبنت لهم الأمم المتحدة على عجلٍ بيوتًا صغيرة، بعد أن عاشوا لأيامٍ طويلة في الخيام، في العراء تحت الشمس أو في ظل البرد والمطر، وشكلت الأمم المتحدة نتيجةً لهذه النكبة وكالةً دولية لتشغيل وغوث اللاجئين الفلسطينيين، عرفت باسم الأونروا، عملت كثيرًا على مساعدة الفلسطينيين، وما زالت تعمل وتقدم بعض المساعدات، وإن كانت قد تراجعت معوناتها وتقلصت خدماتها كثيرًا في السنوات القليلة الماضية.
ليت اللجوء العربي توقف عند الشعب الفلسطيني، وكسر العرب عصا ترحالهم ولم يكرروا التجربة الفلسطينية، ولم يتعرضوا إلى المحنة التي عاشها الفلسطينيون وعانوا منها، إلا أن الحقيقة كانت مغايرة كليًا، وقاسية جدًا، ولعلها كانت شاملة وعامة، فما استثنت شعبًا ولا تجاوزت بلدًا، فقد اكتوى بنار اللجوء وذل الرحيل أغلب شعوب الدول العربية، التي أهينت وذلت، وتعذبت واضطهدت، ولم تجد من ينصرها ويؤيدها، ولا من يساندها ويقف معها، بل تخلى عنهم المجتمع الدولي، وتركهم لمصيرهم الأسود القاسي، فلاقوا الموت صنوفًا، وذاقوا القتل ألوانًا، ومضى قطار هجرتهم لا يتوقف، ولا ينزل ركابه بل يزيدون، ولا يتراجعون بل يمضون.
ملايين العراقيين ما برحوا يغادرون وطنهم، ويرحلون من بلداتهم، هروبًا من سيفٍ وطني حاقدٍ، أو خنجرٍ غريبٍ وافد، أو تآمرٍ دولي خبيث، أو طائفيةٍ حالقةٍ لا تبقي ولا تذر، ولا ترحم طفلًا ولا توقر شيخًا، بل تقتل بحقدٍ، وتصفي بتشفي، وتطهر بمنهجية، وتعمل على التغيير الديمغرافي المدروس، وفق خرائط مرسومة، ومناطق محددة ومعلومة، ومذابح دموية متنقلة حسب الطلب ووفق الهدف، فما أبقت على عربيٍ أو كردي، ولا على مسلمٍ أو مسيحي، ولا على فلسطيني إليها من قديمٍ لاجئ، إذ طالت نسيج المجتمع الفسيفسائي العريق كله فما استثنت منه أحدًا.
فقد ترك ملايين العراقيين بيوتهم، وتخلوا عن ممتلكاتهم، وتركوا خلفهم ذكرياتهم والكثير من متعلقاتهم، هاربين من أتون الحرب، وجحيم الموت، في صيرورةٍ من الهجرة واللجوء لم تنتهِ، ولا أظنها قد آذنت بالانتهاء، وقد شمل الترحيل كل فئات الشعب وطوائفه، فَهُجِّر الأكراد قديمًا ورحلوا، وتبعهم السنة والشيعة والأقليات المسيحية والقوميات الأخرى، وما زال قطار الترحيل يمر في كل البلدات العراقية، ويتوقف في كل الأنحاء، ليستقله من شاء، ويركبه من يريد حيث يريد، والكل يعتقد أن قطار الرحيل يختلف عن قطار الموت، وما علموا أن الهجرة واللجوء صنو الموت وأخت القتل لا فرق.
وقبل سنواتٍ طويلة رحل اللبنانيون من وطنهم، وحملوا معهم الكثير من اللاجئين الفلسطينيين إليهم، الذين كانوا يعانون في مخيماتهم، ويشكون من سوء ظروف عيشهم وقسوة الحياة عليهم، فضلًا عن تداعيات الحرب التي دمرتهم وقتلتهم، فتمزقوا واللبنانيين في اتجاهات الدنيا الأربع، وشكلوا شتاتًا جديدًا، ونزوحًا مؤلمًا فرارًا من رحى الحرب الأهلية الطويلة، التي تعاقب فيها الحلفاء والأعداء والخصوم، كلٌ يقتل الآخر وينقلب عليه، فما كان أمام اللبنانيين وضيوفهم الفلسطينيين إلا الهروب والفرار علهم ينجون من موتٍ محتومٍ يتربص بهم في بيروت وطرابلس وصيدا وصور والجنوب وكل بقاع لبنان الذي كان ملتهبًا.
واليوم جاء دور الشعب السوري الطيب الكريم المضياف، الذي اعتاد على استقبال اللاجئين، والترحيب بالقادمين، إذ كان يفتح لهم دوره، ويسكنهم بيوته، ويهيئ لهم المدارس والملاعب وكبرى الصالات، ليأوي فيهم الفارين من الحروب، من اللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين، ومن كل أجناس العرب بلا استثناء، وكان أهل سوريا على اختلافهم يكرمون اللاجئين ويبشون في وجوههم ولا يعبسون، ويفتحون لهم بيوتهم مرحبين، لا يقصرون معهم في طعامٍ أو شرابٍ أو حسن معاملة، وقد أفردوا لهم لجانًا، وسموا لهم مؤسساتٍ وجمعياتٍ، وكلفوا الكثير من أبنائهم، متطوعين ومأجورين، للعمل مع اللاجئين العرب، لمساعدتهم والتخفيف عنهم، وتقديم العون لهم، وحل مشاكلهم التي تعترض وجودهم، فكانوا في سوريا يدرسون ويتعلمون، ويعالجون ويطببون، ويسرون عن أنفسهم رغم الأحزان، ويجولون رغم الحزن في كل البقاع مستمتعين بأوقاتهم.
اليوم حلت بالشعب السوري الكريم محنة اللجوء، ومصيبة الهجرة، حتى كاد نصفهم أن يكون مهجرًا في وطنه أو بعيدًا عنه، في لجوءٍ غريبٍ، وشتاتٍ محزنٍ، وهجرةٍ قاتلة، وفرقةٍ أليمة، فيها دمٌ ودمعٌ، وأحزانٌ وآلامٌ، وفيها مغامرة ومجازفة، تعوض الموت الذي فات، وتستدرك من فاتهم قطاره، وتذيق من نجا منهم مرارة الغرق والموت بعيدًا عن الوطن، وعميقًا في جوف البحار، وقد لا يكون لبعضهم قبرٌ ولا علامة، ولا شاهدٌ ولا ما يذكر به غير الاسم، إذ أن بعضهم قد سكنت جثته عمق البحار، أو أصبحت طعامًا للأسماك والحيتان.
لعل اللجوء السوري الكبير، ومعه اللجوء الفلسطيني الذي لا يغيب دومًا عن أي لجوء، كان هو الأكثر ألمًا وحزنًا، والأشد وجعًا والأبلغ أثرًا، إذ لا أصعب من انكسار العزيز، ومهانة الحر، وفقر الكريم، وشكوى الكبير، وحاجة الشريف، وسؤال العفيف، وما الشعب السوري إلا سليل العزة والكرامة، وابن الجود والكرم والنبل والشهامة، وقد ابتلي وامتحن، وأهين واضطهد، أفلا نقيل عثاره، وندعو الله في هذا الشهر الفضيل ألا يطيل أزمته، وأن يعجل في إخراجهم وبقية الشعوب العربية من مصيبتهم، ونجاتهم من محنتهم، فإنهم والله قد كسروا ظهر العرب، وسكبوا دمع العين، وعلى مثلهم ينفطر القلب.
بيروت
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net