كمال فياض:
من مميزات العقلية السطحية والشكلية الاهتمام بالكم، بالطول والعرض والكثافة، على حساب النوع والجودة والصحة
كان سقراط أعظم رجال عصره، وفي نظر البعض اعظم رجال التاريخ، لكنه نُبذ وشُهِّر به وسُجن وحُكم عليه بالموت.. وكان حري ان يكون ملك البلاد وحاكمها بلا منازع لحكمته وعلمه واستقامته وسلامة جوهره.. وحدِّث ولا حرج على قياس ما حدث لسقراط مع آخرين عبر التاريخ..
يشهد ذوو العقول واصحاب الرأي النزيه كيف الأدنون يعلون والأعلون يدنون في مختلف المجتمعات، خصوصًا في مجتمعاتنا العربية.. وليس ذلك حصرًا في السياسة وفي مجال الحكم وفي السلطات، بل ايضًا في مجال العلم نفسه والدين والفن... وبطبيعة الحال الأتقى في الدين لا ينافِس على كرسي او وظيفة، ولا يطمح الى سلطة، ولا يطمع بمال سلطة، واذا طُلب اليه ان يتقدم غيره الى شيء من ذلك، تراه اعتذر وقد غلبه الحياء وانكار الذات، بينما الآخرين يتخاصمون ويتشاجرون ويكيدون لبعضهم ويفترون على بعضهم البعض، وأكثر من ذلك، في سبيل الظهور والمنفعة والتحكم، ولنا امثلة في مجتمعاتنا يراها المبصرون..
اما في مجال العلم والثقافة والفن، فكم عالِم بُخس او سُجن او قُتل على يد جاهل، وكم فنان مات وهو مدقع بينما تنعَّم تجار المصالح بنتاجه، وكم شاعر عاش ومات في الظل وهو ابرع وابدع وابعد من ابي تمام ومن المتنبي، كابن الفارض مثلاً.. وقد كان ابي العلاء اعظم وأوسع فكراً وأدبًا من دانتي، وابن سبعين اعمق من ابن رشد، وسلمان الفارسي اعلم من علي بن ابي طالب، وعلي اعلم من محمد بن عبد الله، وصوفيي الاسلام الطف واشف واروع من يوغيي الهند ومن حكماء ورهبان اروبا..الخ. ودون الخوض في أسماء اكثر وتفاصيل، فهذا يحتاج الى اكثر من مقال بل الى اكثر من كتاب.
طبعًا هناك ظروف واسباب موضوعية احياناً لبلوغ الأوج، عوض الدهاء الشخصي والوصولية لدى هذا الشاعر او ذك، لدى هذا السياسي او ذاك، لدى هذا الشيخ او ذك..
كذلك الأمر في مجال الموسيقى والغناء، يفضل الذوق العام من هم وهنَّ اقل مستوى، ولذلك تراهم وتراهن دائمًا تحت الاضواء وملء الفضاء، بينما عمالقة الطرب والموسيقى لهم اماكنهم وروّادهم الأخصاء..
لكن العجيب ان جميع الناس تقريبًا عند المقارنة والكشف عن الحقائق، يعترفون بالفرق بين المستويات في كل المجالات - احياناً بعد فترة من الزمن - وهذا دليل على ان الجهل هو ما يقف وراء خيارات المعظم، ومن هنا فان التثقيف الصحيح، وتعميق الرؤية، هو ما يكفل اعادة النظر فيما نُرجِّح ونفضِّل ونختار، وهو ما تعاني منه المجتمعات الجاهلة المتخلفة كمجتمعاتنا العربية..
وهنا لابد من الادراك والاقرار بأن السطحية والصورية والشكلية صفات تميز العقل العربي – عمومًا - وعدم القدرة على التجريد العقلي في النظر الى الواقع، جعل المفاهيم الثقافية - عمومًا - ضحلة. غير ان لرفع وتعميق العلاقة مع الواقع لا نحتاج فقط الى تغيير في اساليب التعليم والتثقيف، بل ايضًا الى تغيير في القيم نفسها وفي ماهية التفكير نفسه، فما يتحكم في النظر الى الواقع هو قيمنا الاجتماعية، وهذه القيم يغلب عليها صفات سطحية وشكلية، بدء من المعتقدات الدينية حتى الادب والشعر، مروراً بمناسبات الاتراح والافراح واغراض البيت والسوق..
من مميزات العقلية السطحية والشكلية الاهتمام بالكم، بالطول والعرض والكثافة، على حساب النوع والجودة والصحة، كذلك دخول الشخصنة في مختلف الاعتبارات والعلاقات.. فاعرف عمق فكر اي مجتمع من كروش رجاله وأرداف نسائه، ومن البضائع التي يشترونها، ومن البرامج التلفزيونية التي يشاهدونها، ومن أحاديثهم ودواوينهم .. اما عن القراءة والمطالعة فلا تسأل اذ ان الاحصاءات وجداول المقارنة، تبين ان شعوبنا العربية بالمقارنة مع سائر الشعوب - الغربية خصوصًا - هي شعوب أُميِّة بامتياز..
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net