كَيْفَ يَنسى أيّام الوَلَهِ الأولى عندما رآها مصادفةً, كأيّ قصة حبّ شرقيّةٍ قدْ تحوي أيّ شيءٍ, إلا المواعيد المرتّبة مُسبَقاً ؟.
لقد تاهَت الفِكرُ بينما سافرَ حينها في دَهْماء أساريرِها, وكان ليْلهُ طويلاً, حيثُ خان الكَرى عينيْهِ كبائِتٍ على الطّوى, ولفّت العتْمة شَتاتَ خَيالاتهِ المُبحرةِ في كبدِ الإرتباك وهو يهمّ جَمْع نُثارَ أوهامِه, بينما لاذتْ الحمائِم في مضاجعها وأنفاسُ الفجرِ تكادُ تشُجّ هيكل الظّلام وهي تداعبُ رُؤاهُ المورقة بالوجدِ والمكتوبة بجذوة لظى الشّوق النّهم القديم, ونورُ القمرِ المُنبعث بخفةٍ يُمجّد حضورها في غُرّة الدُّجى وقد ضاقت كُلّ مفرداته عن سَجاياها.
وحان مخاضُ الترقّبِ فوُلدَ اللقاء في الطريقِ كَما يُولدُ اللقطاء ...
وككثيرٍ من رِوايات الحبّ في الشرق, خَبا نورُ الحُبّ بعد زواجٍ صاخبٍ, واكتشفت هيَ (هيَ بالذات !) أن زواجها كان تشنّجاً في مَجرى التاريخ, وهو خَنْقٌ لطاقتها وحبسٌ لطموحاتٍ ضخمةٍ تَميدُ لثقلها العيسُ, وأنّ رُضوخَها لاكتمال تلك الرّابطة الزوجيّة إجحافٌ لآمالٍ تعلو قامَته بكثيرٍ وقد تلامسُ السّحاب, ولذا فلا بدّ من فكّ هذا الميثاق بينهما كي تنطلق هي نحو آفاق حرّيتِها وتقذفَ بِه إلى نواصي الوَضاعةِ التي ارتأتْها مأواهُ الحتميّ ....
********
كانت السيارةُ تنهبُ الأسفلتَ الملتهب بتكاسلٍ بادٍ وصوتُ فيروز يُزعج الصمت الذي تحوّل مع النظرات المسروقةِ إلى فصاحةٍ ضَجّ بها مقعداهما وفي فضاء المركبة عَلا أثير الرّغبة المحفوفة بغموض التربّص من ناظريه هو. وكان إيقاع "زهرة المدائن" يفعل فعل طبيب التخدير وهو يرسل يده ويباغتها ليمسك يدها بتباطؤٍ وتراخٍ وخضوعٍ لرغبةٍ جامحةٍ محفوفةٍ بالتساؤلاتِ, وقد أثمله رحيقُ الشغف وتلك اليد تكادُ تجتاح بلا هوادةٍ وشاح سكونها, وهو (في ذروة ارتباكها هي وتمنّعها المشوب بشيءٍ من النفور !) يستقرئ معالمها كمن يحدق في تعليمات استعمال دواءٍ ما ويراقب شعْرَها الفوضويّ الذي انسلّ من تحت منديلها الورديّ وشرع يسافر مع الريح, وأصابع كفه تداعب أناملها الغضّة في طقوسٍ تُحاكي رقص حوريّة حافيةٍ على رمل الشاطئ. وأشاحت بناظرَيْها اللذيْنِ اجتهدا أن يحدّقا بالأُفقِ وهما يتحصّنان خلف نظارتها السوداء علّها بذلك تفلِتُ من سطوة حضورِهِ, وكان هو يجتهدُ في قول : "أحبك" وينفث عندها أنفاس الغريق أو أنّات سجينٍ يتوسّل (عبثاً) إلى جلاده ليرجئ صعود المقصلة, فلقد تلاشى حلم الصّفو عند هذه الكلمة فصار يقولها بتثاقلٍ خشية إنْ أفرطَ في استهلاكها فقد يمحو منها ذلك البريق فتهرب من كفّه أصابعُها المرتعشة الرقيقة كقناديل البحر.
وفرّت بأناملها من قيد كفّه, وردّت يده بجفاء, وكأنّ لمسته ستدعوها للغثيان. لم يعد هو في موازينها قريناً جديراً "برصانة شخصيتها" أو ببراعة اقتنائها للمفردات التي وازت براعتها في اقتناء أزيائها. لقد أيقنت أنها وُلدتْ لتحيا أميرة نبيلةً, وهو السّوقيّ الذي لا يعرف كيف يُلائم ألوان ملابسه ولا يتقن قواعد صالات الطبقات الراقية.
ولمّا تعانقت الطرقاتُ وحاول ثانية لفّها بذراعِهِ, تجهمّت بغير وقارٍ وامتزجت ملامِحُها بالأنفة فخبتْ ومضاتُ ظمئِه الأبديّ. يوماً ما كانت بسمتها المشوبة بالقدسيّة سحابةً فاءتْ فسفحت على قدحهِ حُلوَ المُدام فأترعته بالفرحِ ورقص قلبه طرباً, لكن ما أن تهالكت ذكرى الزّفاف حتى أحسّ أنها تتفلّتُ من سويداء قلبه, ووخزته رعشة الخشية, فلربما يستفيق من هذا الحلم مُكرهاً, وتتلاشى هي في فضاء العدم...
لقد شاءت أن تتحرّر مما تراءى لها كأنه حبْسُها, وتتركه يداعب ذكرياتِهِ, وهجرتهُ إلى فضائها لتعمل وتدّخر لبناء صروحِ أحلامِها, دون أن تعبأ بقلبه الذي خفق بحبّها منذ الوهلة الاولى ....
وعلى حين غرّةٍ, أفاق بذُهولٍ وانقشع الحُلمُ دون سابق إنذارٍ, فصَحا على الوحدة, إلا ذلك المنديل الورديّ الذي بدا يتراقصُ بدلالٍ في مهبّ الرّيح على مقعد السيارةِ الذي بات خاوِياً, وصوتُ فيروز يرحلُ من المذياع وكانه يمسحُ الحزنَ عن طقوسِ الحبّ العتيقةِ...
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net