أستمحيكَ عذرًا غسان كنفاني، أطلب منك شخصيًا ولو كنتَ في مكانٍ بعيدٍ الآن أن تسمح لي باقتباس عنوان روايتك "عائدٌ إلى حيفا" كي أقول لك وللآخرين ماذا شاهدتُ في حيفا! أتمنى أن تصلك صدى كلماتي، فأنا لم أتخطى من العمر العشرينيات، ولم أتعرف على حيفا إلا من خلال كتاباتك. حيفا تلك المدينة الجميلة المحيّرة، الكبيرةٌ الصغيرةُ، تلك المدينة التي يحلمُ كثيرون بالاستمتاع بانسياب موجِ بحرِها، ويتمنى آخرون استنشاق هواء جبلها.
كان جدي والذي تخطى الثمانين من عمره يُحدّثني دومًا عن جمال حيفا، ووادي النسناس الشهير فيها، وعن مصنع القمحِ، وعن الحمص، وعن الناس، وعن البحر، وعن الشوارع، وعن الكرمل، فأحتار في أمري بوصفه! دائمًا ما كنتُ أبتسم وأهزُّ رأسي مبتسمًا عند حديثه. كيف لا وأنا لم أزر حيفا حينها، كيف لا وحيفا في مخيلتي، هي أحاديث جدي، كيف لا وكل ما أعرفه عن حيفا يتمثل في تجربته وكتاباتك. لم أكن أعلم أن قدماي ستحط يومًا رمل شاطئها، ولم أستيقظ بعدُ من حُلُمِ جمال جبالها، ولا اختلافِ أهلها.
حيفا.. ركبت في الحافلة متجهًا إليكِ، وكنت أراجع حينها كل كلمةٍ كانوا يقولوها عن جمالِ عينيك. كنت أتخيلك مبتسمةً، تحتضنين بحرًا ضاحكًا، وجبلًا شامخًا، وسكانًا يتراقصون على أنغام أشجارك، وشباب لا يتمنون أبدًا الحديث عن غيرك. سارت الحافلة لساعات وما زلت أفكر فيما ينتظرني عند الوصول، تمامًا كذاك الشاب الذي ينتظر الوصول لحبيبته بشغفٍ لا توصفه كلمات ولا أحرف اللغات مجتمعة!
نعم لقد عدتُ إليك. نعم لقد توقفت الحافلةُ ونزلت للمرة الأولى في حياتي قبل ثلاثِ سنواتٍ، أتفحص كل جوانبك وكل معانيك وكل شجرةٍ ونقطة ماءٍ وحبة رملٍ فيك! وكأن الزمان توقّف هناك، وأخذت أتذكر ما قاله جدي وما كتبه كنفاني عنكِ، أنت محبوبة الجميع يا حيفا. لم أعد أستطيع التفكير حينها، فاختلاط اللغات مريبٌ، وتداخل البشرِ غريبٌ. كنت حينها واقعًا في غيبوبة الزمن، ولكنني في النهاية عدت! رأيتك ورأيت تفاصيلك، وتفحصتك! نعم لقد اختلست النظر إلى كل زاويةٍ فيك.
كان وادي النسناس مليئًا، تارةً ترى سياحًا، وأخرى ترى مبانٍ كان قد أكل الدهر عليها وشرب، وهناك في الزاوية تلاحظ شابًا كان قد ورث عن والده عمل الحمص، فتقودك قدماك لتفحص المكان. عندها ودون وعيٍ يسمعني أحدهم أقول: لقد عدتُ يا غسان، لقد عدتُ يا جدي، إنني أتناول الحمص في وادي النسناس الآن، وادي النسناس، وهو قلبكِ يا حيفا، وهو امتداد روحك وقلبك!
تركتكِ وفي جعبتي الكثير، وفي ذهني المزيد، وإلى لقاءٍ آخر يا حيفا. سنلتقي يا حيفا يومًا آخر، وسنتحدثُ كثيرًا، وسأخبرك بما قال لي جدي، وسنتسامر، ونبكي، ونبتسم، ونستعيد ذكرياتٍ عشناها سويةً. حيفا أنت الآن معشوقتي، وقد علمتني الحياة أن العشق لا ينتهي!
من رام الله مقيم في حيفا
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net