محمد فهد الحارثي في مقاله:
الحريات دون وجود مسؤولية هي فوضى وربما استغلال ولذلك الحريات في الدول المتقدمة مقيدة بقوانين تحمي حرية الأشخاص وتحمي المؤسسات ومرجعيتها القضاء
تجربة ريهام السعيد هي سقوط مخجل للإعلام وتعكس إلى أي مستوى انحدر بعض الإعلاميين وهم لم يسيئوا إلى أنفسهم فقط بل أساؤوا إلى الإعلام المصري ككل ومنسوبيه
رغم تراجع المبيعات الورقية للصحف على مستوى العالم إلا أن قوة وتأثير الإعلام في ازدياد. وأصبح الإعلام من خلال ثورة وسائل الاتصال أكثر قدرة على التأثير وتحريك الرأي العام. ويحارب الإعلاميون والكتاب من أجل حرية الإعلام ورفع حرية سقف التعبير، وهي مطالبات مشروعة وموجودة حتى في الدول المتقدمة.
فالإعلامي بطبيعته نهم في مسألة الحريات، ومهما أعطي من حريات فسوف يطالب بأكثر وهذا شيء طبيعي ويعكس تركيبة الإعلامي أياً كان الحقل الذي يعمل فيه.
ولكن الحريات دون وجود مسؤولية هي فوضى وربما استغلال، ولذلك الحريات في الدول المتقدمة مقيدة بقوانين تحمي حرية الأشخاص وتحمي المؤسسات ومرجعيتها القضاء. والمؤسسات هناك تخاف الغرامات التي تكسر ظهر المؤسسة الإعلامية، فتكون المؤسسة هي نفسها حريصة على عدم تجاوز القوانين.
ونتذكر جريدة نيوز أوف ذا وورلد البريطانية الشهيرة، التي اضطر صاحبها روبرت مردوخ إلى إغلاقها بعدما قامت بالتجسس على أشخاص دون معرفتهم وتحولت القضية إلى واحدة من أشهر القضايا وفتحت نقاشاً موسعاً حول الحدود التي تنتهي عندها حرية الإعلام. هذه القضية التي تحولت إلى محاكمات واستجوابات كشفت عن تغول الإعلام وتحوله إلى لاعب يغيَر من الحقائق بدلاً من أن يكون راصداً لها.
وتمثل التجربة المصرية في الإعلام واحدة من الحالات التي تستحق الدراسة، خاصة أن الإعلام هناك يعيش حالة من عدم التوازن بعد سقوط نظام مبارك، ونجد ممارسة الحريات عند بعض الإعلاميين بشكل انتهازي وأناني. فالرغبة في تحقيق جماهيرية وكسب شهرة أصبحت هي المرتكز الذي يعمل عليه هذا الإعلامي.
وبطبيعة الحال حينما يثير جدلاً في المجتمع أياً كانت مسبباته فهو يشعر أنه حقق طموحه في لفت الانتباه إلى برنامجه وشخصه. وكان من الممكن أن يتم تقبل هذا الأمر على أنه منافسة وتتطلب جهداً في سبيل كسب جمهور أكبر، لكن حينما تكون الغاية هي الأهم بغض النظر عن الوسيلة فهنا سقوط للإعلامي وللإعلام.
وربما تجربة المذيعة المصرية التي استهوتها قضية الشهرة إلى درجة أنها تعتدي على خصوصية مواطنة بأسلوب غير مهني وتنشر معلومات شخصية من هاتفها المحمول. فهذا سقوط مخجل للإعلام وتعكس إلى أي مستوى انحدر بعض الإعلاميين وهم لم يسيئوا إلى أنفسهم فقط، بل أساؤوا إلى الإعلام المصري ككل ومنسوبيه.
هذه الممارسات في الإعلام المصري هي نتاج فوضى تمر بها هذه الصناعة. وقد كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي محقاً حينما أشار في كلمة له إلى أن الإعلام يردد في تناوله للقضايا العامة، كلمة كارثة وكارثة، ثم أشار بذكاء إلى الميكرفون وقال ليه هنا مفيش كارثة.
ويقصد فيه الإعلام المصري. وقال بصراحته المعهودة، الإعلام المصري به إعلاميون لا يفهمون شيئاً، وينشرون الجهل بين الناس من دون وعي . وفي الحقيقة قد عبر الرئيس المصري بصدق عن مشاعر كثيرين تجاه الفوضى التي تعم صناعة الإعلام.
التفاعل الشعبي المصري وبعض الإعلاميين المهنيين والناشطين في مصر يكشف الوجه عن دور مؤسسات المجتمع المدني وتأثيرها فحينما حصل استنكار كبير لما حصل. تجاهلت القناة في البداية من مبدأ أنه سيحقق لها دعاية أيضاً.
لكن حينما انسحب المعلنون واحداً تلو الآخر شعرت القناة بخطورة الوضع وأعلنت عن وقف البرنامج. التجربة في ذاتها تكشف عن أن الوعي مطلوب، ومبادرة النخب في التأثير على الوضع والوقوف في وجه الأخطاء يأتي بنتائج.
وهذه تكشف أيضاً عن تنامي الوعي في المجتمع المصري، وتأثير الإعلاميين الملتزمين بأخلاقيات المهنة الذين يستحقون الإشادة. فقضية مثل هذه كان من المفترض أن تتم محاسبة المحطة والإعلامية، فهنا كما قلنا سلفاً متلازمة الحرية مع المسؤولية. ولكن موقف هؤلاء لعب الدور الأهم في مواجهة هذا السلوك الانتهازي.
وحينما يشعر كل إعلامي أنه حينما يستغل المساحة الإعلامية لأهداف شخصية أو لأجندات غير وطنية فإن المساءلة ستكون ليس فقط من السلطة، بل حتى من الجمهور ومن مؤسسات المجتمع المدني، عندها تكون هناك حسابات أخرى أهم فقط من تحقيق أرقام مشاهدة أعلى.
والإشكالية التي تواجه الإعلام في المنطقة العربية أن بعضهم لا يدرك الفرق بين ناشط سياسي وإعلامي. فدور الناشط السياسي يختلف عن عمل الإعلامي. وحينما يغيب الخط الفاصل بينهما تصبح الصورة ضبابية وتصبح الرسالة مشوشة.
لا يمكن للإعلام أن ينجح ما لم تكن هناك كفاءات إعلامية قوية ومهنية. الحريات مطلب مشروع، ولكن تتطلب وجود إعلاميين قادرين على أن يوظفوا هذه الحرية من أجل خدمة الإنسان وليس من أجل خدمة الذات.
حرية الإعلام مهمة لبناء مجتمعات صحية، فالإعلام الناجح هو عين المسؤول في الكشف عن الأخطاء، كما أنه صوت المواطن. ولكي تحقق الدول مشروعها التنموي لابد من جود اعلام وطني نزيه ومهني. ويتمتع بالاستقلالية الكاملة التي تعطيه حرية الحركة.
كما أن من مسؤولية المؤسسات الإعلامية التأكد من المعايير المهنية والتزام منسوبيها بهذه المعايير. تحقيق جماهيرية كاذبة على حساب الجمهور هو استغلال رخيص لثقة الناس، وهو في جوهره لا يبتعد عن المسؤول الذي يرتشي أو السارق الذي يعتدي على المال العام.
قبل التنظير والحديث الإنشائي لابد من تحقيق الشرط الأول لبناء إعلام ناجح ومؤثر هو بناء الكفاءات الإعلامية المهنية، ففي هذا القطاع كما أي قطاع آخر السلعة الجيدة تطرد السلعة الرديئة.
نقلاً عن البيان الإماراتية
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net