فتح المسلمون القدس صلحا قبل ما يزيد على أربعة عشر قرنا، في السنة الخامسة عشر للهجرة، إذ تلألأت أسماؤها، حين دأب أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" على الحفاظ على قدرها ومقدارها، عندما أقبل من طيبة الفواحة بعطر خاتم أنبيائها، ليتسلم مفاتيح القدس ومقاليدها، بلا غرغرة للسيوف أو قعقعة للسلاح، فكان لها ما لم يكن لغيرها، عهدة تحفظ القدس للعالمين، على ذمة المؤمنين بعد عهد الله، وبعد ذمة رسوله الكريم وذمة الخلفاء من بعده، تقر بالحق، وتنصف المستضعفين. دخلها أمير المؤمنين عمر بتواضع واستكانة، وصل إلى مسجدها المبارك وصخرتها الشريفة ف"بسط رداءه عندما وجد على الصخرة زبلا كثيرا مما طرحته الروم... وجعل يكنس ذلك الزبل، وجعل المسلمون يكنسون معه الزبل" (العليمي، 1999: ص 380).
ففي عهد الفاروق أعيد بناء المسجد الأقصى، ثاني مسجد وضع على وجه الأرض، "وعن أبي ذر قال: قلت لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: أي مسجد وضع على وجه الأرض أولا؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: البيت المقدس وبينهما اربعون سنة" (العليمي، 1999: ص 5/167). "وقال عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما: بيت المقدس بنته الأنبياء وعمرته وما فيه موضع شبر إلا وقد سجد عليه نبي أو قام عليه ملك" (العليمي، 1999: ص 361).
في عهد الأمويين بني مسجد قبة الصخرة الشريفة إذ أن "عبد الملك، سنة سبعين من الهجرة، حمل إلى بنائه خراج مصر سبع سنين، وذلك في نحو ثلاث سنين" (الأنصاري، 2010: ص 133). وبعد معركة حطين وتوجه جيوش المسلمين إلى بيت المقدس وخراب أسوارها أثناء تحريرها من الصليبيين، اعتمد الناصر صلاح الدين على وصول جماعة من الموصل "للعمل في الخندق، جهزهم صاحب الموصل صحبة بعض حجابه، وسير معه ما لا يفرقه عليهم في رأس كل شهر، وأقاموا نصف سنة في العمل، وأمر السلطان بحفر خندق عميق وانشأ سورا، وأحضر من أسارى الفرنج قريبا من ألفين ورتبهم في ذلك، وجدد أبراجا حربية من باب العمود إلى باب المحراب، وباب المحراب هو المعروف الآن بباب الخليل، وأنفق عليها أموالا جزيلة وبناها بالأحجار الكبار، وكان الحجر يقطع من الخندق ويستعمل في بناء السور، وقسم بناء السور على أولاده وأخيه العادل وأمرائه، وصار يركب كل يوم ويحضر على بنائه، وكان يحمل الحجر على قربوس سرجه ويخرج الناس لموافقته على حمل الحجر إلى مواضع البناء، ويتولى ذلك بنفسه وبجماعة خواصه والأمراء، يجتمع لذلك العلماء والقضاة والصوفية والأولياء وحواشي العسكر والأتباع وعوام الناس. فبنى في أقرب مدة ما يتعذر بناؤه في سنين" (العليمي، 1999: ص 1/529-530).
إن تعمير القدس ما نقض عهد الولاء والطاعة، لألفة الأحبة في لمة مستطاعة، فجمع الحجاز ومصر والعراق، ليبقى خارج حوض الزهاق، أشما باسق الأعناق، مرفوع الوفاض والوفاق، في رده زمن الانقطاع، على خطاب خرج من فيه من يدعى بالمفكر المصري، يرمي الاقتطاع بقدس الأقداس والبقاع والأسقاع: "القدس مكانتش موجودة"، ربما غاب عن حضرة المفكر المصري أن ما لم يكن موجدا هو القاهرة التي بنيت عاصمة للفاطميين الذين سلموا القدس للصليبيين، وليست القدس التي هي أصلا ولم تكن يوما فرعا. وقد انعكست صورة المدن على البشر، فالأصل ثابت راسخ راس كالجبال، والفرع يتراقص مع كل حرف يشوب المجال يبغي صنع المحال.
تتنزه القدس عما قد يخرجها من موقعها كما فعل السيد زيدان: "اليهود بيوصفوا القدس بالعبري زي مانت بتوصف مكة بالعربي فبتقول البيت الحرام فهم بيقولوا بيت همقداش فانت رحت واخد الكلمة العبرية وبتتخانق مع اليهود ده هم حيتجننوا مننا انت واخد كلمتي أنا وملكش حاجة هنا أصلا"، فأور سالم الكنعانية التي حرفت ليروشالايم العبرية تشهد بأن العبرانيين بعد استضافة الكنعانيين لهم تقمصوا اللغة والثقافة قبل احتلال الأرض، فاليوم بالعربية هي يوم بالعبرية، والشمس بالعربية هي شمش بالعبرية، والسماء العربية هي شمايم العبرية، والبنت العربية هي بت العبرية، والولد العربية هي يلد العبرية، والقائمة تطول وتشمل أسماء المدن والقرى، ابتداء من نابلس، شكيم الكنعانية، شخيم في العهد الإسرائيلي إلى بيت المقدس، فحفظ العبرية في إسرائيل يتم عن طريق دراسة اللغة العربية.
اقترن بيت المقدس بكل عاصفة هوجاء، عصفت بها رياح ذوي الكبرياء، فكان الرجاء، في قبلة موسى من أولي العزم الرسل الأشداء، قبل داوود وسليمان الحكماء، حيث خشعت فيه جمهرة العلماء، وتآلفت به قلوب الأوفياء، فأضحى عهدة الأتقياء، والتأم فيه شمل الأنبياء. "وقوله تعالى: {سبحن الذي أسرى} كافية في فضله. إذ جعلها سبحانه طريق حبيبه حين أراد العروج به، فجمع له فضل البيتين، وجمع له به الأنبياء فصلى بهم فيه، وإلا فالطريق من البيت الحرام إلى السماء مثلها من بيت المقدس إليها. ثم هو قبلة الأنبياء أو قبلة موسى ومقصدهم، وفي الحديث: "أن جبريل ربط البراق بالحلقة التي كان يربط بها الأنبياء" (الأنصاري 2010: ص 110-113)، فمن بركة بيت المقدس وطيب ثراها، احتفت بجميع من والاها، وأجلت جمع من حاباها، وبجلت كل من قصدها وابتغاها، فلم تتنكر لديانة، ولم تمتهن أو تزدري طائفة، ولم تتخل عن مذهب أو فئة. و"لم تكن لنبي من الأنبياء، ولا لأمة من الأمم، فقد اختارها الله عز وجل واصطفاها لتكون مسجدا للمسلمين الموحدين في كل زمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال تعالى عن إبراهيم ولوط: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}. وتلك البركة كانت فيها قبل إبراهيم عليه السلام، وكانت تلك الأرض وهذا المسجد مسرى النبي صلى الله عليه وسلم" (الأنصاري 2010: ص 72).
كل ما ورد في القدس وبيتها، يجلي الشك عن اليقين، أنها تغص عند ذكر ما لا يناسبها، وتنقبض عندما يطلب منها ما يؤلمها. فكيف بمن يسعى ليهدي روحها لغيرها وهي من تهدى إليها الأرواح. "وروى المشرف بسنده عن عمران بن الحصين قال: قلت: يا رسول الله ما أحسن المدينة، قال: "لو رأيت بيت المقدس"، قال: قلت: أهي أحسن منها؟ فقال: كيف لا تكون أحسن منها وكل من فيها يزار ولا يزور وتهدى إليها الأرواح ولا يهدي روح بيت المقدس لغيرها، إلا أن الله أكرم المدينة الشريفة وطيبها بي فأنا فيها حي، وأنا فيها ميت، ولولا ذلك ما هاجرت من مكة فإني ما رأيت القمر في بلاد إلا وهو بمكة أحسن" (العليمي، 1999: ص 360). فهل يعني ذلك إعفاء القدس من العهدة العمرية ومن قبلها النبوية، لتكفر بلم الشمل والجمع للدخول بعصر الإقصاء، والاستبعاد، والمحو والمسح لتقوم بمتطلبات عهدة سيسية زيدانية؟ وأين الخطاب من خراج مصر سبع سنين، وجماعة الموصل التي رممت سور القدس الحزين، وعمرت ما انحنى إثر ظلم الظالمين؟ هل أضحت في ذكر المنسيين؟ أ و سـتطعم القدس عرق الآخرين! وتأكل حق الغابرين! بمنقلب على ما ورد عن أشرف المرسلين؟
جمال الدين أبي محمد عبد الله بن هشام الأنصاري. (2010). تحصيل الأنس لزائر القدس. حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: عيسى القدومي وخالد نواصره، قبرص: نيقوسيا- مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقيه.
مجير الدين الحنبلي العليمي. (1999). الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل. إعداد وتحقيق ومراجعة: عدنان يونس عبد المجيد أبو تبانه ، مكتبة دنديس.
كفركنا
الجليل
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net