عبد الباري عطوان في مقاله:
للمرة الالف نقول اننا ندين كل انواع الحصارات سواء التي يفرضها النظام السوري على شعبه ومدنه، او تلك التي يفرضها تحالف “عاصفة الحزم” في اليمن
استخدام سلاح الحصار والتجويع من قبل السلطات السورية، او اي سلطات اخرى في اي مكان، مدان بأقوى العبارات، وهذه الادانة سواء صدرت منا، او اي جهة اخرى، لن تغير من الواقع كثيرا
تعرضت الحكومة السورية لهجمات اعلامية شرسة بسبب حصارها لمدينة مضايا في ريف دمشق، ووفاة بضعة عشرات من ابنائها جوعا لنقص المواد الغذائية، ونشرت محطات تلفزيونية عربية صورا مرعبة لبعض الضحايا، تبين لاحقا انها مفبركة، الامر الذي ذكرنا باكذوبة “شهود العيان” في بداية الازمة السورية.
استخدام سلاح الحصار والتجويع من قبل السلطات السورية، او اي سلطات اخرى في اي مكان، مدان بأقوى العبارات، وهذه الادانة سواء صدرت منا، او اي جهة اخرى، لن تغير من الواقع كثيرا، فسجل هذه السلطات فيما يتعلق بحقوق الانسان ليس ورديا على الاطلاق.
الحكومة السورية تجاوبت فورا مع الضغوط الاعلامية والدولية، وقررت رفع الحصار، والسماح لقوافل الاغاثة بالدخول الى المدينة، اعتبارا من الاثنين (غدا)، الامر الذي ربما يضع حدا لهذه المأساة الانسانية البشعة.
اللافت ان هذه الحملة الاعلامية الضخمة التي شنتها محطات تلفزة التحالفين العربي والاسلامي، ترامنت مع تصاعد حدة التوتر السعودي الايراني على ارضية اعدام الشيخ نمر باقر النمر، واقدام بعض المتشددين الايرانيين بإيعاز جهة في الحكومة الايرانية باقتحام السفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد وحرقهما كرد انتقامي مباشر على هذا الاعدام.
محطات التلفزة نفسها التي ملأت شاشاتها بصور الضحايا، التي تبين رسميا فبركتها، ولم تبث وكالات الانباء العالمية المحترمة اي منها، قالت لنا ان الحصار على مدينة مضايا والزبداني جرى فرضه قبل 200 يوم، ولذلك فان السؤال الذي يطرح نفسه هو عن المدة، ولماذا افاقت عليه فجأة الآن؟
نحن مع استخدام كل الوسائل الممكنة لكسر الحصارات على المدنيين، ونؤكد ان من واجب الاعلام لعب دور كبير في هذا الخصوص، واحسنت صنعا هذه المحطات التلفزيونية عندما لفتت انظار العالم الى هذه المأساة، وساهمت فعلا في التسريع بوضع حد لها، ولكن ما نشك فيه، ونعترض عليه هو “الفبركة” من اجل تحقيق اهداف سياسية، وتوظيف صور مزورة في هذا الخصوص، والخلط بين ما هو سياسي وما هو انساني الامر الذي يعطي نتائج عكسية تماما، وهذا ما حدث.
قبل الغارات الجوية على العراق في كانون الاول (يناير) عام 1991، جرى تكرار الاسلوب الدعائي نفسه، ولا زلنا نذكر تلك البطة المسكينة التي كانت مغطاة بالنفط الخام على شواطيء الخليج من جراء ضخ نظام الرئيس صدام حسين عشرات الاطنان من مياه الخليج لتلويثه، لنكتشف بعد ذلك ان هذه البطة هي بطة الاسكية (من الاسكا)، والشاطيء التي ترتعد بردا عليه هو احد شواطيء البحيرات في الاسكا ايضا، ولا ننسى في هذه العجالة الفتاة نيّره ابنة الشيخ سعود ناصر الصباح سفير الكويت في حينها التي ادعت انها ممرضة كانت تعمل في احد مستشفيات الكويت، وشاهدت بام عينها الجنود العراقيين ينتزعون الاطفال الخداج من حاضناتهم، ويلقون بهم على الارض، دون رحمة او شفقة، ويسرقون هذه الحاضنات.
مرة اخرى نؤكد اننا ندين حصار النظام السوري مضايا والزبداني، مثلما ندين براميله التي يلقيها على معارضيه المسلحين، وتدمر احياء مدنية، مع تسليمنا في الوقت نفسه ان هذه المعارضة المسلحة ايضا تقصفه، وجنوده، والاحياء السكنية الخاضعة لسيطرته بالصواريخ ايضا، وتقتل مدنيين، فهذه حرب، الجميع يقتل فيها دون اي استثناء، مع فوارق لا ننكرها في اي مقارنة بين الجانبين، ولكن من حقنا ان نسأل عدة اسئلة:
الاول: طائرات التحالف الستيني بقيادة الولايات المتحدة التي تزدحم بها الاجواء السورية قامت بأكثر من ثمانية آلاف غارة حتى الآن، والقت آلاف الاطنان من القنابل على مواقع “الدولة الاسلامية” في الموصل والرقة والرمادي، فلماذا لم تقصف اهل مضايا والزبداني بأطنان الاغذية والادوية.
الثاني: طائرات تلفزيونات التحالف العربية تشارك في هذه الغارات، وقصفت، وتقصف الآبار والشاحنات النفطية التي تسيطر عليها قوات “الدولة الاسلامية”، فلماذا لم تتعطف هي وقيادتها، وتسقط بعض شحنات الاسلحة للمحاصرين السوريين.
ثالثا: لم نسمع مطلقا، ولم نشاهد، اي من المسلحين المحاصرين يتضور جوعا، وتبرز عظام قفصه الصدري، فهل هذا من قبيل الصدفة؟
ربما يجادل البعض بأن منطقة مضايا تقع تحت سيطرة القوات السورية، وقد تتعرض اي طائرات تسقط شحنات من الاسلحة الى الدفاعات الجوية للنظام السوري، مثلما قال احد المتحدثين العسكريين البريطانيين لصحيفة “الديلي تلغراف” البريطانية، ردا على سؤال لها، حول عدم تدخل طائرات بلاده لانقاذ الضحايا تحت الحصار.
هذا الجدل مردود عليه بالقول ان هناك اكثر من 500 طائرة بطيار او بدونه، ومروحيات من كل الانواع تجوب الاجواء السورية منذ عامين تقريبا بحجة محاربة “الدولة الاسلامية”، ولم تتعرض اي منها لرصاصة واحدة من هذه الدفاعات السورية المنتهية الصلاحية التي لم تسقط طائرة اسرائيلية واحدة منذ اربعين عاما.
الاكثر من ذلك ان مضايا تبعد ستة اميال عن الحدود اللبنانية، والوصول اليها يحتاج الى اقل من بضعة ثوان جوا، ولا نعتقد ان الصواريخ السورية متقدمة مثل نظيرتها التركية التي اسقطت الطائرة الروسية من طراز سوخوي.
للمرة الالف نقول اننا ندين كل انواع الحصارات سواء التي يفرضها النظام السوري على شعبه ومدنه، او تلك التي يفرضها تحالف “عاصفة الحزم” في اليمن، او التحالف “الحوثي الصالحي” على تعز، لاننا ضد سفك دماء الانسان العربي و المسلم، والضحايا في النهاية بشر، وهم اهلنا ومعظمهم ابرياء في الجانبين، ولكننا، ومن منطلق مهني واخلاقي، ندين في الوقت نفسه الانتقائية والفبركة الاعلامية ايا كانت الجهة التي تقف خلفها.
وحتى “فبركات” جديدة في اطار حملات التضليل الاعلامي السائدة هذه الايام نقول الى اللقاء.
نقلا عن الرأي اليوم
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net