غسان شربل في مقاله:
أغلب الظن أن الماغوط كان سيموت لأسباب أخرى أيضًا من رؤية القتل الطائفي والتهجير من ارتكابات مَنْ وفدوا بحجّة دعم المعارضة واغتالوها
تصوّر محمود درويش يرى بنيامين نتنياهو يتابع بالمنظار اندحار الدول والعواصم العربية ينتصر من دون أن يطلق رصاصة ويسمعه يقول إن ما فعلته إسرائيل بالفلسطينيين أقل بكثير مما يفعله العربي بالعربي
أهربُ أحيانًا من مهنتي. منذ اندلاع «الربيع العربي» تحولتُ حفّارًا للقبور. أجمع يوميًا الجثث الوافدة من الشرق الأوسط الرهيب وأواريها في صفحات «الحياة». وحين أسافر بحثًا عن خبر أو نافذة أرجع مثخنًا بهدير الانهيارات وبكاء الخرائط.
تلازمني عادة سيئة قديمة. أتوهّم أن الهروب إلى المكتبات يساعد أو يفيد أو يعزّي. ذهبتُ إلى مكتبة جرير في الرياض. وكان همّي التعرُّف إلى نتاج الأصوات الجديدة. فجأة شاهدتُ على الرف المجاور صُوَرًا ودواوين لأربعة من المقيمين في الذاكرة. محمد مهدي الجواهري. نزار قباني. محمد الماغوط. ومحمود درويش.
أفسدَتْ الصُّوَر رحلتي. انتابني شعور غير لطيف. وجدتُني أقول في نفسي حسنًا أنهم ماتوا. وخجلت قليلًا بشعور من هذا النوع. البديهي أن أقول ليتهم عاشوا أكثر. أعمارهم تغني أعمارنا ومخيلاتنا. ورحم الأمة بخيل أصلًا. لا يفاجئنا بقامات من هذا النوع إلا في فترات متباعدة وربما لهذا السبب نشعر أمام الزمن أننا عُزَّل إلاّ من المتنبّي. نعتبره نجمة عابرة للقرون التي تغتال العناوين والأسماء. ونرى ديوانه درّة المكتبة ونحمله معنا حين تستدعينا المنافي.
حسنًا أنهم ماتوا.
لا نُبلَ في هذا الشعور ولا رقّة. لكنني عزيزي القارئ، أتحدَّث عن رجال عرفتُهم وقرأتُهم. ولعلّني في داخلي أردتُ أن أنقذهم من ذُلِّ الإقامة في مستنقع الانحدار العربي. انحدار لا يَعِدُ بغير المزيد من الانحدار.
عدتُ إلى الفندق فلاحقتْني الصُّوَر. تَصَوَّر عزيزي القارئ، أن يُستدعى الجواهري العظيم، مرتكب العمارات ووريثها، ليمثُل أمام محكمة «داعش». وأن يرى لدى دخوله المحكمة رأس الماغوط مقطوعًا وصاحب الرأس يواصل ضحكة عالية تشبه الصهيل. تصوَّر أن يُسأل الجواهري عن جرائمه، عن الأبيات التي اقتحمت النوافذ والجدران وتسلَّلتْ إلى الذاكرة والألسن.
تصوَّر عزيزي القارئ، الجواهري جالسًا على شفير دجلة في بغداد العباسيين. تصوَّرْهُ يرى بغداد تتلوّى على لحن النزاع الشيعي – السنّي. تصوَّرْهُ يستمع إلى الأنباء عن استباحات «داعش». والارتكابات في المقدادية بعد طرد التنظيم. وحلم أهل الأنبار بالإقليم. وحلم الأكراد بالطلاق. لا يصلح الجواهري لزمن الطوائف والخنادق. أتخيّلَهُ يرمي بنفسه في النهر للاختباء خجلًا في أعماقه.
تصوَّر عزيزي القارئ، الماغوط يمثُل أمام محكمة «داعش». ويسأله القاضي عما قاله للصحافي في المقهى الدمشقي: «لا تسقط في الأمل. الخيار أمامنا معروف: إما أبو نجمة (الضابط) وإما أبو لحية (الإرهابي) وكلاهما يغذّي الآخر. الأول يسرق كرامتك وربما أظافرك أو أسنانك. والثاني يسرق أبسط حقوقك ويحوّلك كتلة من الظلام».
وأغلب الظن أن الماغوط كان سيموت لأسباب أخرى أيضًا. من رؤية القتل الطائفي والتهجير. من ارتكابات مَنْ وفدوا بحجّة دعم المعارضة واغتالوها. وارتكابات البراميل والسيارات المفخّخة. من هذا الخيار المدمِّر بين «أبو نجمة» و «أبو لحية».
وتصوَّر عزيزي القارئ، نزار قباني يتابع بأناقة روحه وأسلوبه ومن بيروت الموحِشة أخبار سورية الممزّقة والمدمّرة بشرًا وحجرًا. ودمشق التي غادرها الياسمين. وبغداد الذبيحة الكئيبة المفلسة. أغلب الظن أنه كان سيستدعي قصيدة «متى يُعلنون وفاة العرب؟» ليضيف سطورًا لاهبة قبل أن يُبحر في قوارب الموت.
وتصوّر محمود درويش يرى بنيامين نتنياهو يتابع بالمنظار اندحار الدول والعواصم العربية. ينتصر من دون أن يطلق رصاصة. ويسمعه يقول إن ما فعلته إسرائيل بالفلسطينيين أقل بكثير مما يفعله العربي بالعربي. أغلب الظن أن قلبه كان سينفجر أو سيسلّم نفسه متعمّدًا لسيّاف «داعش».
حسنًا أنهم ماتوا باكرًا. نجوا من مستنقعات الذُّل الشاسعة. من حقول الظلام المديدة. وحقول الوحل والدَّم. من هذا الانحدار السريع الهائل المتواصل. حسنًا أنهم لم يعاينوا فضيحة الموصل. وحلب. وبغداد. ودمشق. وطرابلس. وصنعاء. حسنًا أن نزار لم يشاهد الإيزيديات سبايا يُبعنَ في الأسواق.
ما هذا الانحطاط؟ ما هذا الانحدار؟ يذهب صحافي إلى المكتبة ليتعزّى ثم يجد نفسه يهنّئ مَنْ توارى قبل الزمن العربي الحالي. زمن الذليل الواقف في الصَّف الطويل.
نقلًا عن الحياة
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net