مطانس فرح في مقاله:
في زمنٍ مليء بالأقنعة والمظاهر الغاشّة، يتنافس فيه الرّجال والنّساء و"يتناحرون" على خدعة النّاس بمظاهرهم اللّامعة البرّاقة، وبجمالهم المُصطنَع، ومقتنياتهم "النّادرة" النّفيسة
تحوّلت أحكامنا وآراؤنا إلى بلاء اجتماعيّ خطِر، وباتَ جزءًا لا يتجزّأ من حياتنا اليوميّة.. فالرّصيد الفعليّ لأيّ كان و/أو كانت بين النّاس لا يُقاس وفق "جمال المظهر"، فوراء هذا الجمال والقناع يظهر قُبح الجوهر والتّصرّف، أحيانًا.. فليس كلّ ما يلمع ذهبًا
غالبًا ما تكون رجيمة أحكامنا على الآخرين لا رحيمة. ملعونة هذه الأحكام الجائرة والآراء المسبّقة، تلك الّتي تصدر منّا وعنّا، بناءً على قشور خارجيّة ذات ألوان مُزركشة برّاقة ومظاهر خدّاعة كذّابة.
ففي زمنٍ مليء بالأقنعة والمظاهر الغاشّة، يتنافس فيه الرّجال والنّساء و"يتناحرون" على خدعة النّاس بمظاهرهم اللّامعة البرّاقة، وبجمالهم المُصطنَع، ومقتنياتهم "النّادرة" النّفيسة، من المركبات الفخمة، ونفائس المجوهرات والذّهب، والملابس الباهظة الثّمن لأفضل المصمّمين والشِّركات، وحياة البذخ والرّفاهيَة؛ تحوّلت أحكامنا وآراؤنا إلى بلاء اجتماعيّ خطِر، وباتَ جزءًا لا يتجزّأ من حياتنا اليوميّة.. فالرّصيد الفعليّ لأيّ كان و/أو كانت بين النّاس لا يُقاس وفق "جمال المظهر"، فوراء هذا الجمال والقناع يظهر قُبح الجوهر والتّصرّف، أحيانًا.. فليس كلّ ما يلمع ذهبًا.
وقد أكّد علماء النّفس واختصاصيّوها أنّ اهتمام الشّخص بالمظاهر الخارجيّة البرّاقة وحبّ التّظاهر (Show Off) والتّقليد الأعمى؛ تعود كلّها إلى مرض نفسانيّ ناتج عن عدم الثّقة بالنّفس أو الإحساس بعقدة النّقص ممّن هم أعلى من مستوى هذا الشّخص مادّيًّا أو يفوقونه جمالًا. وأشار العلماء إلى أنّ محبّي المظاهر يعيشون في قلق وتوتّر دائمين، تسيطر على حياتهم التّعاسة وتلفّهم الهموم؛ لأنّهم "يقدّسون" المظاهر، يراقبون الغير، ويهتمّون بالقشور التّافهة فقط، وينسون الجوهر، فينشغلون عن المعنى الحقيقيّ للحياة.
وفي تعريف الأحكام المسبّقة جاء على أنّها مجموعة من الآراء الهوجاء الطّائشة المتسرّعة، الّتي يتّخذها أو يبنيها شخص و/أو مجموعة من النّاس عادةً من دون تفحّص دقيق، في غياب المعلومات، الظّاهريّة منها والباطنيّة، أو الممارسة العمليّة الكافية لمعرفة الآخر. وتأتي هذه الأحكام، أحيانًا، من معتقدات أو موروثات تربويّة و/أو ثقافيّة و/أو تاريخيّة و/أو اجتماعيّة و/أو دينيّة، لا تجاري الزّمن، تنبع من جرّاء تعميم أخرق. هذه الأحكام تكون نقطة بداية في استقاء وتلقّن المعلومة لدينا، إلّا أنّها تتحوّل لدى الغالبيّة إلى ثابتة.
أحكامنا المسبّقة على الآخرين تُشعرنا بالدّفاع عن النّفس وبمركزيّة ذاتنا، وهذا ما يؤدّي بنا عادةً إلى تعلية شخص أو مجموعة وتنكيس آخر أو مجموعة أخرى! ما يدفعنا، للأسف الشّديد، إلى اتّباع سياسات تميّيزيّة تلقائيّة متهوّرة لا-اختياريّة تجاه الآخر نتيجة فكر مسبّق وحكم ظالم.
تستغوينا، أحيانًا كثيرة، الأشياء البرّاقة اللّامعة، معتقدين أنّها من النّفائس، لنكتشف أنّها مجرّد قطع معدِنيّة زائفة لا قيمة لها، كعدد كبير من الأشخاص المُفلسين التّافهين المزيّفين الّذين يعتقدون - بكلّ غباوة - أنّ الإنسان يُقاس بملبسه ومقتنياته، ناسين أنّه يُقاس بأخلاقه ومبادئه وتصرّفاته وجمال روحه وحسن تعامله وصدقه مع الآخرين.. من دون أن "يتجمّل" بمظاهر خارجيّة خدّاعة، لامعة برّاقة!
نعيش جُلّ حياتنا سجناء أفكارنا المسبّقة من دون أن ندرك ذلك، فنصدر أحكامنا على الآخرين من وراء القضبان الحديديّة لفكرنا المُنغلق وذهننا المرتجّ. فنصدر آراءَنا على الآخرين وِفق ملبس، مِشية، منهجٍ، حركةٍ، كلمةٍ، سلعةٍ، رُفقةٍ، و.. و.. وكلّها على أساس أحكام مسبّقة، معتقدين أنّنا ننتهج أحكامًا موضوعيّة في إبداء آرائنا، بينما أحكامنا بحقّ البعض لا-موضوعيّة وغاشمة.
إنّ الاهتمام بالمظاهر اكتسح مجتمعنا بطبقاته المختلفة، وسيطر على حياتنا.. حتّى أصبحنا نلبس ما لا يليق بنا ونتحدّث لغةً مختلفة عنّا ونتصّرف كما يتصرّف غيرنا، مجاراةً للوضع السّائد، منجرفين مع التّيار، سائرين في مجراه، كَيْلا نغرّد ضدّ السّرب.. ما قد يدفع بنا إلى الهلاك.
نحن نقع، يوميّـًا، في فخّ الأحكام المسبّقة، ونتّخذ آراءً وقرارات خاطئة عن الآخرين باعتمادنا على مظهرهم الخارجيّ، أو انتمائهم الثّقافيّ، أو الجنسيّ، أو ميولهم الفكريّة.. ورغم تعسّر الأمر وصعوبته، دعونا ندع أحكامنا وآراءَنا المسبّقة على الآخرين جانبًا – بعيدًا عن تسريحة الشّعر والماكياج والملابس والفروقات الطبقيّة و.. و.. – لتقودنا العقلانيّة في التفكّر قبل استخلاص أحكامنا. علينا أن نحكم على الأمور بشكل موضوعيّ، وأن نتجرّد من أفكارنا المسبّقة وألّا نخجل بالكشف عن أخطائنا لإصلاحها. نحاول أن نختلق ألف سبب ومُسبّب لنعلّق الآخرين بأحكامنا، غاضّين الطّرف عن أخطائنا وعيوبنا ومفاسدنا و"قرفنا" حتّى، متنصّلين من مسؤوليّتنا، مُتناسين أنّ داخل كلّ واحدٍ منّا، أيضًا، سرّ دفين، تغلّفه القشور!
يجب ألّا تخدعنا، بعد اليوم، هذه المظاهر الخارجيّة البرّاقة؛ لأنّ اللّمعان والبريق والجمال الحقيقيّ يأتينا من الدّاخل ليشعّ إلى الخارج. وهذا ما نصبو إليه - إلى مجتمع مختلف لا متخلّف، يتعلّق بجواهر الأمور لا بقشورها. يجب ألّا تخدعنا المظاهر فعلًا، فهدوء المقابر لا يؤكّد بأنّ جميع الموتى ينعمون في الجنّة!
لنشلحَ آراءَنا المسبّقة جانبًا، ونكفّ بالحكم على الآخر وفق الشّكل الخارجيّ. لنحتكم إلى العقل، بعيدًا عن كلّ ما هو ذاتيّ وشخصيّ. علينا أن نكون موضوعيّين في آرائنا كَيْلا نكون جائرين في أحكامنا؛ رغم أنّ الضّبابيّة ستبقى في مجتمعنا، على الدّوام، تلفّ كلّ واحد منّا، لأنّ الحقيقة الخالصة مؤلمة، ومؤلمة جدًا.
*الكاتب صِحافيّ حيفاويّ، مدير تحرير صحيفة "حيفا".
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net