إبراهيم خطيب في مقاله:
بفصل الدعوي عن السياسي يمكن أن تتولد خطورة التمايز بين الاحزاب السياسية وإن كانت الخلفية الهوياتية من الصعب التغاضي عنها
الحركة الاسلامية ليست جامدة بل هي متطورة ومتغيرة كما هو حال المجتمع ككل والأمر الاخر أنه على الحركة الاسلامية المعاصرة التأكد أنها في دخول الغمار السياسي يمكن أن تربح او تخسر
أقرت حركة النهضة التونسية في مؤتمرها الاخير فصل العمل الدعوي عن العمل السياسي، فيكون حزب النهضة المهتم في الشأن السياسي وبالمقابل يترك العمل الدعوي لمؤسسات المجتمع المدني فيما تعتبر خطوة جريئة (او مخاطرة) من قبل الحركة في سياق تعاملها مع التحولات السياسية في العالم العربي.
هذه الخطوة لها سلبياتها وايجابياتها، وإن كانت الحركة الاسلامية المعاصرة خصوصًا في العالم العربي قد حاولت جمع العمل الدعوي والسياسي تحت مظلة واحدة فيما حرصت بعض الحركات على التمايز بينها كما هو الشأن في المغرب وليس الفصل الكامل. بنظرة تلخيصية لأهم السلبيات والايجابيات والمخاطر التي ترافق خطوة كذلك والتي يمكن أن تنسحب على حركات اخرى يمكن إجمال التالي:
1. تسييس الدين ام تديين السياسة: يبدو أن خطوة النهضة يمكن أن يرافقها خلط كبير في دور الدين في العمل السياسي، وهل فصل العمل الدعوي يعني بالضرورة سحب الدين من العمل السياسي، وبرأيي هذا الامر يتعلق بالحزب القائم وهل اجندته وخلفيته الدينية ستكون حاضرة في النقاش السياسي والحكومي أم لا، ومدى رصانة وقوة الاجندة الدينية والاجتماعية التي يحملها وتوافقها مع الديموقراطية الموجودة في دولة كتونس مثلًا (مع الاخذ بالاعتبار أن فهم الضوابط الدينية يمكن أن يكون مختلفًا كما أن فهم الديموقراطية وضوابطها يمكن ان يكون مختلفًا) وبالتالي لا يمكن القطع بأن فصل العمل الدعوي هو بالفعل فصل الديني عن السياسي في ظل شمولية الاسلام التي لا يمكن انكارها.
2. خير للدعوة أم إضعاف للمشاركة في الحيز العام: يبدو أن تركيز العمل الدعوي خارج الاطار الحزبي السياسي يمكن أن يجعل العمل الدعوي ذو إستجابة أكبر بين العوام لطبيعة نفور الناس من السياسة وبالتالي يمكن أن يلقى العمل الدعوي خارج الاطار الحزبي قبولًا أكثر بين الناس لكونهم لا يشعرون أن باستماعهم لمؤسسات المجتمع المدني الدعوية والشيوخ كنوع من الاصطفاف السياسي مما يمكن أن يزيد من منسوب تديّن المجتمع، لكن بالمقابل يمكن أن يكون لذلك تأثير عكسي بجعل المتدينيين هؤلاء يتوانون عن المشاركة السياسية وادعائهم أننا فقط نريد الالتزام بالدين والتدين المبني على الانشغال بالعبادات والروحانيات وترك الحيز العام، وهنا يكمن تحدي الدعاة في هذه المرحلة من الفصل بين العمل الدعوي والسياسي في توضيح شمولية الاسلام وضرورة مشاركة المسلم المتدين في الشأن العام واهتمامه بالسياسة واحوال الناس مما يمكن أن يكون رافعة للحزب السياسي الاسلامي أو إذ لم يتم الامر بشكل سليم وتوّلد الشعور أن خطاب هذه المؤسسات هو توجيه لحزب سياسي فهذا يعيدنا للمربع الاول القائل أن الفصل غير ممكن وأن هذا الامر تكتيكي.
3. الخطاب السياسي للحزب: بفصل الدعوي عن السياسي يمكن أن تتولد خطورة التمايز بين الاحزاب السياسية وإن كانت الخلفية الهوياتية من الصعب التغاضي عنها، ولكن الغوص في العمل السياسي المفصول دعويًا ممكن (وليس بالضرورة) أن يضعف مدى تماسك الخلفية الدينية للحزب ناهيك عن أن البراجماتية السياسية يمكن أن تكون أوسع بشكل يمكن أن يتجاوز بعض الضوابط، وهذا يمكن أن يقلل من القاعدة الشعبية المتدينة للحزب.
4. عدم جعل الدين منافس سياسي: يمكن أن تكون خطوة النهضة تهدف لجعل الدين أعلى من التنافس السياسي، ويكون تديين المجتمع من خلال مؤسسات المجتمع طريقًا لذلك، وإذا كان الامر ناجحًا بشكل كبير ونجحت هذه المؤسسات في تديين قوي للمجتمع ممكن أن يؤدي بشكل مباشر او غير مباشر الى اختيار وانتخاب احزاب سياسية تضع احترام ضوابط الدين نصب أعينها، ويصبح التنافس الحزبي الانتخابي حول قضايا عامة وشؤون تحسين حياة ومعيشة المجتمع ويكون الكل متفقًا ومنضبطًا تحت ضوابط الدين وهذا الأمر بالقطع ليس بالسهل.
5. التنافس هوياتي ام خدماتي: النقاش حول نوعية التنافس الانتخابي والاجندة الحاضرة فيها دائمًا ما يكون حاضرًا في النقاشات الانتخابية في كل بلد.. ويكون البعد الايدلوجي حاضرًا كما لا يعزل البرنامج الخدماتي الذي يحمله الحزب وأظن أن الفصل بين الدعوي والسياسي وخصوصًا في المنظور القريب (خصوصًا اذا لم تتم النقطة السابقة بنجاح) لن يكون بعيدًا عن هذين المحورين، فسيظل الحزب ذو الخلفية الاسلامية والاحزاب العلمانية ترتكز على قاعدة جماهيرية هوياتية مبنية على البعد الايدلوجي بينها، ناهيك عن البعد الخدماتي والبرنامج الذي تحمله.
بالختام هذه الخطوة تحتاج لدراسة مستفيضة كما أن تطبيقها على الواقع ونتائجها يمكن أن يعطي دروسًا لحركات اسلامية أخرى والتجربة هذه ممكن أن تكون ملهمة او بالعكس تمامًا، منفّرة، من خطوة كذلك.. السياقات لها أهميتها والواقع يفرض نفسه، ولكن هذا الحدث يؤكد حقيقتين أن الحركة الاسلامية ليست جامدة بل هي متطورة ومتغيرة كما هو حال المجتمع ككل (وهذا التغيير يمكن تكون فيها سلبيات وايجابيات) والأمر الاخر أنه على الحركة الاسلامية المعاصرة التأكد أنها في دخول الغمار السياسي يمكن أن تربح او تخسر ويمكن أن تتبدل احوال الجماهير حولها تبعًا للواقع والمتغيرات وليس بالضرورة نفورًا من الدين ويبقى عليها أن توازن بين متطلباتها الايدلوجية والدعوية وتقريب الناس من الدين وكذلك المتطلبات السياسية وخدمة المجتمع والنهوض به.
الكاتب هو باحث دكتوراة في العلوم السياسية في جامعة هومبولدت في برلين – المانيا
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net