أحمد ياسين في مقاله:
تصريح دخول إلى تلك الدولة؛ والله أكاد أجزم أن بعض الناس يقيمون الحفلات والليالي الملاح عند استلام ورقةٍ لا يفهم منها الشخص شيئاً سوى اسمه المكتوب بالعربية، وما تبقى من أحرفٍ، تكاد الورقة نفسها تشمئز منها!
يكاد لا يمر يومٌ دون الحديث عن التصاريح؛ وحدث دون حرجٍ عن مؤيدٍ لها وآخر معارض. وفي حالاتٍ كثيرةٍ يتمنى المعارضين لو حصلوا على تصريح حتى لو بالخفية ليومٍ واحدٍ
نعم، على هذه الأرض ما يستحق المعاناة، وعلى هذه الأرض كثير من الأشياء تستحق التفسير، وعلى هذه الأرض، أم الأرض، أرض البدايات وأرض النهايات، فالبدايات عند الشباك، والنهايات بورقةٍ تسمى تصريح!
لا أدري ما إن راق لي اُسلوب الكتابة المبتدئ بالطلب، أم أن كونك فلسطيني الجنسية يعني بالضرورة أن تكون من المتطلبين، حتى أنا في هذه اللحظة التي أكتب فيها، أطلب مزيداً من الفحم على أرجيلتي، فامتزاج الدخان بالورق يعطيها طابعاً آخر يحاكي أحجار رام الله القديمة!
تصريح دخول إلى تلك الدولة؛ والله أكاد أجزم أن بعض الناس يقيمون الحفلات والليالي الملاح عند استلام ورقةٍ لا يفهم منها الشخص شيئاً سوى اسمه المكتوب بالعربية، وما تبقى من أحرفٍ، تكاد الورقة نفسها تشمئز منها!
يكاد لا يمر يومٌ دون الحديث عن التصاريح؛ وحدث دون حرجٍ عن مؤيدٍ لها وآخر معارض. وفي حالاتٍ كثيرةٍ يتمنى المعارضين لو حصلوا على تصريح حتى لو بالخفية ليومٍ واحدٍ يَرَوْن فيه تقوسَ قبةٍ ذهبيةٍ، سرقت هيبتها بعض الأعلام البيضاء والزرقاء، أو يستمتعون بمرح بحرٍ قد سئم من سماع أي شَيْءٍ غير العربية.
تدخل ذلك المكتبَ الغريب بعد انتظار طويلٍ؛ يتوقف الزمن هناك، فلا تشعر بأي شَيْءٍ، حتى أنك تتجرد من كل الأحاسيس في بعض الأوقات. تتوقف كالعادة للتفتيش، قبل دخول البوابة الثانية. تأخذ رقماً، تنتظر دورك، وأنت تدرك أن الجميع يصلون ويدعون ويتلون القرآن والإنجيل وحتى التوراة، داعين الله أن يقول الجندي لهم: خذ تصريحك.
تتقدم فتنطر في عيني جنديةٍ لم تبلغ العشرين، تتلعثم في لغتها العربية، وتحاول جاهداً بكل ما أوتيت من قوةٍ أن تتذكر كل كلمةٍ عبريةٍ تعرفها أو تعلمتها وتدمجها بالإنجليزية، لتتواصل معها. تسألك عن رقم الهوية؛ يدق القلب مسرعاً، ترى صورتك على الحاسوب، ثم تسألك: لماذا تحتاج التصريح؟ يتوقف عقلك عن العمل حينها، تنظر حولك وتقول: هذا يريد الذهاب للمستشفى، وذاك ليزور عائلته، وتلك ترغب بإشباع عينيها لرؤية أولادها، وهذه العجوز تكاد عيناها تدمع لزيارة ابنتها.
أتظنون أن الجندية تجيد قراءة العينين، وتفهم معنى نظراتك من حولك؟ أتظنون أنها تكترث؟
تطبع لك التصريح وتقول تفضل (خبيبي) أي حبيبي بلهجتها وتقول أنت: أنا لست حبيبك، ولن أكون، وأنت تحلمين. في تلك اللحظة تأتيك نشوة الانتصار الآنية، وتشعر أنك ملكت الدنيا وما فيها، ولم تعد الورقة مهمة الآن؛ المهم أنك رددت على الجندية وأقنعتها، حتى لو للحظةٍ، أن حبيبتك ملاكٌ على هيئة انسانٍ، لا تمت للجندية بصلة! فشعرها أشقر، وعيناها زرقاوان، ووجها ليس حنطياً، ولغتها ليس عربية، إذاً كيف تكون حبيبتك.
تأخذ الورقة، تنظر حولك مجدداً، وتشعر أن الجميع سيصفقون لك، وكأنك اجتزت اختباراً ربانياً بامتياز. وترى الحسرة في أعين الكثيرين المنتظرين، وهم يقولون في داخلهم: أرأيت؟ هل جننت؟ نريد تصريحاً نحن أيضاً.
تخرج من بوابة ثانيةٍ، تركب السيارة، تنظر يميناً ويساراً.... تغادر ذاك المكان اللعين وأنت تردد: على هذه الأرض ما يستحق الحياة!
نعم، على هذه الأرض ما يستحق المعاناة، وعلى هذه الأرض كثير من الأشياء تستحق التفسير، وعلى هذه الأرض، أم الأرض، أرض البدايات وأرض النهايات، فالبدايات عند الشباك، والنهايات بورقةٍ تسمى تصريح!
وأعيد سؤالي عليكم قبل الختام: بدكم تصريح؟
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net