سليم سلامة:
يبقى المعيار واحدا ويبقى الطريق واحداً: لا ممثل لأي جمهور أو مجتمع إلا مَن انتخبه هذا الجمهور وهذا المجتمع واختاره واضعاً فيه ثقته ليمثـّله
النقد الذي يستدعيه هذا البيان مُوجّـَه إلى عنوان واحد فقط لا غير: أشخاص يقل عددهم عن عدد الأصابع في يد واحدة، هم المبادرون إلى هذا البيان
لا أعتقد أن ثمة من يمكن أن يجادل في حقيقة أن بين هؤلاء البروفيسوريين أسماء لامعة وقامات باسقة يشكل أصحابها مصدر فخر واعتزاز لمجتمعهم بأكمله
لا يمكن ولا يجوز أن يكون البروفيسوريون "ممثلين للمجتمع" لمجرد كونهم بروفيسوريين، كما لا يمكن لـ"الجمعيات الأهلية" ولا يجوز أن تكون "ممثلة مجتمع مدني" (!)
"البيان ضد العنف" الذي وقّع عليه "لأول مرة، 100 بروفيسور" (كما تم الترويج له!) يعرض أمامنا إشكالية جوهرية جدية، بل خطيرة، تتجاوز كل ما أثاره هذا البيان من نقاش ـ مهمّ في حد ذاته، بصرف النظر عن حججه وتوجهاته ـ كما تتجاوز الأهمية التي حاول أصحابه ومروّجوه إسباغها عليه!
ومع اتفاقنا مع بعض الملاحظات الأساسية التي طـُرحت في معرض مناقشة هذا البيان ونقده، بل تسويئه، ثمة حقيقة أساسية ينبغي التنبيه إليها وتأكيدها وعدم إغفالها. وهي أن النقد الذي يستدعيه هذا البيان مُوجّـَه إلى عنوان واحد فقط لا غير: أشخاص يقل عددهم عن عدد الأصابع في يد واحدة، هم المبادرون إلى هذا البيان، نصّاً وتصنيفاً، دون الموقعين الآخرين، الذين يربو عددهم على المائة. وهي حقيقة لا بد من تسجيلها، إنصافاً لهؤلاء الأخيرين (الموقعين)، من جهة، وتوضيحاً لدوافع المبادرين ومطامحهم، من جهة أخرى!
فإنّ ما أكدته شهادات عدد غير قليل من الموقعين يكشف عن فعل مغالطة (حتى لا نقول "تضليل"!) مارسه المبادرون، ولا يبدو أن الأمر كان مجرد سهو: كثيرون من الأساتذة الذين تم الاتصال بهم لطلب موافقتهم على إدراج أسمائهم في قائمة الموقعين على البيان لم يُقل لهم إنه "بيان بروفيسوريين". ولو قيل لهم هذا ـ كما أكدوا لنا ـ لما وافقوا على إدراج أسمائهم ولما ارتضوا لأنفسهم هذا الحرج الذي أوقعهم فيه البيان "النخبوي الاستعلائي"!
أما المبادرون إلى تجنيد موافقات وتواقيع ممّن يحملون درجة الأستاذية العلمية (بروفيسور) دون غيرهم من أبناء المجتمع وحشرهم في بيان نخبويّ "خاص ومميز" يتطرق إلى آفة اجتماعية تطال الجميع دون استثناء، فمن الواضح أنهم (المبادرون) يرون بأن لهذااللقب"أهمية" و"مكانة" خاصة تميّه عن غيره.
لا أعتقد أن ثمة من يجادل في هذه الأهمية وهذه المكانة على المستوى الأكاديمي ـ العلمي ـ البحثيّ ـ التخصصي. ولا أعتقد أن ثمة من يمكن أن يجادل في حقيقة أن بين هؤلاء البروفيسوريين أسماء لامعة وقامات باسقة يشكل أصحابها مصدر فخر واعتزاز لمجتمعهم بأكمله، يستحقون كامل الاحترام والتقدير على ما حققوه من إنجازات علمية ـ بحثية مهنية وعلى ما يحتلّون من مراكز ومناصب بلغوها بجهد فردي كبير.
ولكن، ثمة مسافة واسعة جدا بين هذا وبين استغلال هذه الدرجة الأكاديمية، أو سواها، لادعاء موقع ودور "ثقافي". والحريّ بمن يبادر إلى نشاط جمعيّ كهذا، بين مجموعة أكاديمية لامعة كهذه، أن يميّز بين مفهوم "العلم" ومفهوم "الثقافة" فلا يخلط بينهما خلطاً مغالِطاً وتضليلياً.
والأخطر ـ وهنا تكمن الإشكالية التي قصدناها في بداية الحديث ـ هو محاولة استغلال الدرجة الأكاديمية لادعاء موقع ودور "تمثيلي" وكأن في هذه الدرجة، في حد ذاتها، ما يمنح حامليها امتيازات أو أفضليات "قيادية" و"تمثيلية"، لمجرد أنهم يحملون هذه الدرجة فقط حتى لو كانوا غير مشاركين، مطلقا، في أي نشاط أو فعل اجتماعي ـ سياسي جماهيري.
ليست هذه المرة الأولى التي يحاول فيها بعض أكاديميينا اعتلاء صهوة ألقابهم الأكاديمية للمطالبة بدور وموقع "قيادي" و"تمثيلي". ويبدو أن هذا البعض ما زال ماضياً في طريقه هذه ومصرّا على الاستقواء بدرجته الأكاديمية "لانتزاع" ما لم يـُثبت استحقاقه له وجدارته به. لهؤلاء، ينبغي أن يكون الأمر واضحا جلياً تماما لا لبس فيه ولا تلميح: لا يستطيع بروفيسور عربي، اثنان أو ثلاثة أو أكثر، محاولة اقتحام الأبواب والفوز بموقع تمثيليّ من خلال "تجنيد" 100 بروفيسور آخر، ولا أضعاف مضاعفة من هذا العدد، لإصدار بيان يدّعون فيه كونهم "ممثلين للمجتمع المدني الفلسطيني" ووضع الأمر وكأنه حقيقة مسلّم بها وأمر واقع!
لن نناقش هنا البروفيسوريين المبادرين إلى هذا البيان: ماذا تقصدون بقولكم "المجتمع المدني الفلسطيني"؟؟ وهل ثمة لدينا مجتمع فلسطيني آخر، "غير مدني"؟؟ ألا يجدر بحمـَلة درجات الأستاذية العليا التدقيق في الكلام والدقة في اختياره؟
لن نناقشهم لأننا نسمح لأنفسنا بأن نفهم شيئا واحدا يقصدونه ويريدونه: تمثيل المجتمع الفلسطيني هنا! ومن غير العسير الفهم أنهم لا يقصدون "التمثيل الأكاديمي"، بالطبع!
لا يمكن ولا يجوز أن يكون البروفيسوريون "ممثلين للمجتمع" لمجرد كونهم بروفيسوريين، كما لا يمكن لـ"الجمعيات الأهلية" ولا يجوز أن تكون "ممثلة مجتمع مدني" (!)، لمجرد مشاركتها في بعض النشاطات وتنظيمها أخرى، بأموال ترصدها صناديق مختلفة، محلية وأجنبية، تضع أجندات معينة وتسعى إلى تمريرها.
يبقى المعيار واحدا ويبقى الطريق واحداً: لا ممثل لأي جمهور أو مجتمع إلا مَن انتخبه هذا الجمهور وهذا المجتمع واختاره واضعاً فيه ثقته ليمثـّله، سيان كان في إطار حزبي ومن خلاله أو في إطار هيئة تمثيلية معروفة ومتفق عليها ومن خلالها! .... لا يكون "التمثيل" اعتباطا ولا اغتصاباً. ومَن يبتغي تمثيل الجمهور والمجتمع، ينبغي عليه أن ينخرط في تنظيم حزبي ـ سياسي أو هيئة تمثيلية معترف بها ومتفق عليها، ثم أن يحاول من هناك بلوغ مبتغاه وتحقيق مطمحه. أما التأفف من الأحزاب والهيئات والتعفف عن العمل السياسي ـ الحزبي والجماهيري المباشر ثم البحث، في المقابل، عن منفذ لادعاء دور "تمثيلي"والفوز به فهو مسلك غير أخلاقي وفاقد للمصداقية، حتى لو كان صاحبه.... بروفيسوراً!