الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 09 / نوفمبر 23:02

أنقرة وأوروبا.. حفلة أخطاء صاخبة/ بقلم: محمود الريماوي

كل العرب
نُشر: 18/03/17 08:23,  حُتلن: 08:26

محمود الريماوي في مقاله:

واقع الحال أن الأزمة الحالية تمثل امتداداً للأزمة التي تسبب بها الموقف الأوروبي من الانقلاب وما تلاه

يُنظر إلى تركيا أوروبياً على أنها نموذج لا يمنح المقتضيات الديمقراطية الأولوية في أدائه السياسي

تصاعد الخلاف، هذه المرة، وانتقاله من مستوىً تشوبه سلبيات إلى مستوىً عدائي، يثير جُملة من التساؤلات

الأتراك الذين لم يجدوا نصيرا لهم في هذه الأزمة، فإنهم مدعوون لمراجعة موقف التصعيد الذي اتّبعوه

ليست الأزمة الناشبة بين أنقرة والاتحاد الأوروبي الأولى بين الطرفين، لكنها الأكثر حدّة بينهما، فقد سبق أن نشبت خلافات عديدة على خلفية الموقف الأوروبي من الطلب التركي بالانضمام إلى الاتحاد. كما برزت أزمة حول اللاجئين وانتقالهم من تركيا إلى دول أوروبية. وظهرت أزمة بين الجانبين، بخصوص إعفاء المواطنين الأتراك من تأشيرة الدخول إلى الدول الأوروبية، وطفت إلى السطح أزمة أخرى حول الموقف الأوروبي من الانقلاب الذي تعرّضت له تركيا صيف العام 2016، ما يدل على حساسيةٍ تتسم بها هذه العلاقات، حتى حين تهدأ الأجواء بينهما. لقد اعترضت تركيا، على سبيل المثال، على موقف الإدارة الأميركية السابقة إزاء محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/ تموز الماضي، لكن سوء التفاهم لم يلبث أن طوي بين واشنطن وأنقرة، بينما احتفظ كل من الأتراك والأوروبيين (على التفاوت بين مواقف هؤلاء) بدرجةٍ ملحوظة من التحسّس بينهما. ذلك أن الأوروبيين بعدما أخذ الأتراك عليهم موقفا مخيباً للآمال إزاء الانقلاب، فإنهم لم يتوانوا عن إبداء التحفظات على الإجراءات التركية، عقب فشل الانقلاب، والتي شملت حملات تسريح موظفين وموجة اعتقالات واسعة ووقف عشرات المطبوعات والقنوات التلفزية. وواقع الحال أن الأزمة الحالية تمثل امتداداً للأزمة التي تسبب بها الموقف الأوروبي من الانقلاب وما تلاه.

وإذ يبدو مغرياً الحديث عن جذر الخلافات الذي يكمن في حساسية ثقافية متبادلة، فإنه، على أهميته، غير كافٍ لتفسير سوء التفاهم المستفحل، والذي تتخلله حالاتٌ من التهدئة. وإذ يفخر الأوروبيون، ولهم الحق في ذلك، بمعاييرهم الديمقراطية الرفيعة، وبسيادة حكم القانون في أوروبا الغربية بالذات، إلا أنهم لا يفتقرون إلى البراغماتية السياسية غير المبدئية، حين يجدون مصلحةً في ذلك، وهو ما جعلهم يمالئون الانقلاب في بلاد الأناضول، على أمل أن يحمل ربما علمانيين إلى سدة السلطة، حتى لو كانوا عسكريين من غير أصحاب الهوى الديمقراطي. بينما يخلط الأتراك، بصورة شبه متعمدة، بين الموقف من الانقلاب الذي يؤاخذ عليه الأوروبيون وردود فعل هؤلاء على الإجراءات اللاحقة على الانقلاب، وهي ردود فعلٍ مفهومة، وتناصر مبدأ حكم القانون.

غير أن تصاعد الخلاف، هذه المرة، وانتقاله من مستوىً تشوبه سلبيات إلى مستوىً عدائي، يثير جُملة من التساؤلات، فهل كان يتعذّر على الجانبين إبرام تفاهماتٍ بخصوص تنظيم حملات تركية حول تعديل الدستور في كل من ألمانيا وهولندا والنمسا والسويد؟ ولماذا ترك الجانبان هذه المسألة إلى التقديرات الآنية لكل منهما؟ وهل العلاقات الطبيعية بين الدول تجيز منع طائرة وزير خارجية من الهبوط؟ وهل التصرفات المسيئة والعدائية تجيز وصف المسيئين بنعوت النازية والفاشية، فيما كان من الممكن، ومن الواجب وصفها بما هي عليه وحسب، تصرفات بالغة السلبية لا تخلو من عدائية، ويتطلب الأمر تصحيحها؟.

الرد على هذه التساؤلات يجد بعض تفسيره بأن كلا الجانبين، هولندا وتركيا، يعيش أجواء انتخابية، تزخر بانفعالات سياسية عالية. رغبت الحكومة الهولندية، بزعامة حزب الحرية والديمقراطية، أن لا يستغل منافسها حزب الحرية اليميني الشعبوي، بزعامة غيرت فيلدرز، هذه الأزمة لصالحه، فكان أن عمدت الحكومة، برئاسة مارك روتي، إلى اتخاذ إجراءات لكسب ود جمهور الحزب الشعبوي الصاعد وأصواته. وبهذا، فإن حسابات سياسية آنية انتخابية قد حرّكت الحكومة الهولندية لاتخاذ اجراءات مسيئة بحق تركيا. أما الأخيرة، والتي يقودها حزب العدالة والتنمية، فقد كانت مستفزة مسبقا من تقرير لـ"مجلس أوروبا"، وهو منظمة دولية موثوقة يعتد بها أوروبياً، وبآرائها لدى وضع التشريعات..
وقد ذكر تقرير المجلس أن "التغييرات المقترحة التي ستعزّز صلاحيات الرئيس، رجب طيب أردوعان، تمثل خطوة خطرة إلى الوراء في المجال الديمقراطي". وقد رد وزير العدل التركي، بكر بوزداغ، على التقرير، بأنه "يجافي الموضوعية والحياد، ولا قيمة له". فيما تنبئ ردود الفعل التركية العنيفة على الإجراءات بأن أنقرة تشعر بسعي دول أوروبية إلى إفشال مشروع التعديلات، من خلال منع مسؤولين أتراك من مخاطبة الجاليات التركية في هذه الدول، وحيث من حق الأتراك في الخارج المشاركة في الاستفتاء المقرر في 16 إبريل/ نيسان المقبل. وكما لو أن الأوروبيين يزجّون أنفسهم في مسألة داخلية مصيرية. وثمّة من يوضح أن حزب الشعوب الديمقراطي الكردي/ التركي قد سُمح له بتنظيم تجمعاتٍ مناهضة للتعديلات في هولندا في الأيام الثلاثة الأولى من مارس/ آذار الجاري، فيما تم ترحيل وزيرة الأسرة التركية، بتول صيان، إلى خارج الحدود، وهو ما أثار حفيظة الحكومة التركية. وبينما تحدثت هولندا عن حساسيةٍ أمنيةٍ، قد تثيرها التجمعات، وخصوصا إذا ما تم إقامة تجمعات مناهضة، مع إشارة أمستردام إلى أن أتراكا مستهدفين بمخاطبتهم، هم هولنديو الجنسية، فإن هذا الاضطراب في الموقف يكشف كيف أن أخطاء جسيمة ذات طابع إداري وتنظيمي، من شأنها التسبب بأزمة كبيرة. ويفيد مآل التطورات بأن الجانبين، الهولندي والتركي، لم يراع كل منهما وضع الطرف الآخر. وكان من اللافت عزوف دول أوروبية أخرى عن اتخاذ موقفٍ يميل إلى العمل نحو التهدئة، على الرغم مما أبدته دول، مثل فرنسا، من حياد، فقد كان من الواجب ألّا تندفع دول عديدة لمناصرة الموقف الهولندي، وأن تحتفظ بمسافةٍ تتيح لها الإسهام في احتواء الأزمة غير المسبوقة، بدلاً من سكب الزيت على النار.

أما الأتراك الذين لم يجدوا نصيرا لهم في هذه الأزمة، فإنهم مدعوون لمراجعة موقف التصعيد الذي اتّبعوه، فلن تجد دولةٌ ما يغريها بالوقوف مع مسار تصعيدي، لم يكن ينقصه سوى قرع طبول الحرب، خصوصا أن المسؤولين الأتراك لم يعمدوا إلى مخاطبة الرأي العام في هولندا، واكتفوا بتوجيه اتهاماتٍ جارحةٍ نالت من الهولنديين. والأغرب من ذلك أن ألمانيا وزعيمتها، أنجيلا ميركل، قد نالها أيضا سيلٌ من الاتهامات، علماً أن ألمانيا ظلت الأقرب إلى تركيا بين الأوروبيين، وخصوصا في عهد زعيمتها الحالية، وقد ربطتها بالرئيس التركي صداقة مهنية ملحوظة، والمأمول أن تتحسن العلاقات التركية الألمانية قبل الانتخابات الألمانية المقررة في سبتمبر/ أيلول المقبل.

يرمي أردوغان الحياة السياسية والعامة في أوروبا بتفشّي الموجة القومية والشعبوية المتطرفة فيها، والحال أن أوروبيين كثيرين، بمن فيهم من يتصدّرون الحكومات، يشاطرون الرئيس التركي تقييمه هذا، ما يثير التساؤل بشأن أنجع الوسائل لمخاطبة الرأي العام الأوروبي هنا وهناك، تفادياً لاستشراء هذه الموجة، ومنع وصول ممثليها إلى الحكم.
لحسن الطالع، لم يتقدم الحزب الشعبوي الهولندي المعادي للإسلام والمسلمين كثيراً في الانتخابات الهولندية، وفق النتائج الأولية. وهو ما يحمل على توجيه الشكر للهولنديين الذين لم يمكنّوا الحزب الأخرق من تمثيلهم، ومن قيادة حكومتهم. ذلك هو منطق الأمور، بعد ما جرى من نعت الهولنديين بالجملة بنعوتٍ صادمة. هذا مع أهمية الحرص على مستقبل الأتراك في القارة الأوروبية، وتعدادهم يناهز ستة ملايين، وعدم الفصل بينهم وبين شرائح المجتمعات الأخرى، خصوصا أن نسبة كبيرة منهم يحملون جنسيات أوروبية. فيما يتاح لهولندا، وبعد انتهاء المعركة الانتخابية وطيّ حساباتها، مراجعة موقفها العدائي، وعدم الاستهانة بالعلاقات مع بلدٍ كبير، وفي حُكم الجار، وهو تركيا.

وذلك كله من دون إبداء تفاؤل كبير بحسم مجمل الخلافات الأوروبية التركية، وحيث يُنظر إلى تركيا أوروبياً على أنها نموذج يمزج بين النهوض الاقتصادي والنمو الصناعي واختراق الأسواق وبين حكم يقوده حزب ذو خلفية دينية وقومية، ولا يمنح المقتضيات الديمقراطية الأولوية في أدائه السياسي. بينما تتبدى أوروبا، في نظر النخبة التركية، نادياً يجمع بين التقدم الصناعي والنزعة الديمقراطية والشعبوية والتعالي الغربي الموروث النازع إلى تحجيم تركيا.

* نقلًا عن العربي الجديد- لندن

 المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة

.