الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 14 / نوفمبر 22:02

محمد داوود كبها يكتب على العرب: الطّندر

كل العرب
نُشر: 05/04/17 20:19,  حُتلن: 17:29

على مشارف قيساريا تعطّل "الطندر" فجأة ، وتعطّلت معه عقارب الزّمن. تناول بشير هاتفه النّقال بعد أن يئس من تصليحه بمفرده، وراح يتصل بعمه صاحب الدراية والخبرة ، علّه يفيده من بعيد ، لكن السيّارة أبت النّهوض رغم كل المحاولات .

استدعى بشير شاحنة الجرّ عن طريق شركة التأمين وعاد يجرجر أذيال الخيبة ، دون أن يعلم أنّها أذيال النّجاة كما أخبره عمه عند الوصول . قال له متنهّدًا وهو يشبك أصابع يديه وقد وضع الكفتين عاليا خلف العُنق :
" احمِد ربّك يا بشير ، قيساريا بلد ملعونة ."
نظر العم من أعلى الجبل إلى أربعة أعمدة ضخمة لشركة الكهرباء قد لاحت في الأفق وتذكّر يوما شاع به في بلدتنا خبرٌ مرعبٌ حزين !
كان العيد يطرق أبواب المنازل باحثًا عن وجوه ضاحكة ، لكنّ النّاس ما فتحوا له بتاتًا ، وحتى الأطفال ما أطلّوا من النوافذ والشرفات .
الكل منغمس في متاهات الأقاويل .
سعى الشفق الأحمر لاحتضان الأفق ، انتشر الخبر كالنار في الهشيم ، حتى وصل إلى مسامع المصلين والإمام قُبيل صلاة المغرب.
كانت أسرع صلاة في تاريخ القرية ، قرأ بها الشيخ سورة الفاتحة من دون تجويد قبل أن يتبعها بسورة الكوثر في الركعة الأولى وسورة الإخلاص في الثانية .
لم تكن صلاة بشرية عاديّة، بل صلاة ذات حركات سريعة وكأنها تصدر من آلات متوهجة .
صخبت القرية وضجّ كل من فيها بهذا النبأ حتى تزلزلت الأرض تحت نعال الرجال ، وعبست السّماء تعاطفا.
قفز الناس من المسجد وهم يهرولون نحو بيت عائلة الجالوتي في الحيّ الشمالي من البلدة ، وعلى الطّريق الترابية الضيقة التي تؤدي إلى هناك صهل حصان الشّاب بأعلى صوته ، وارتبك في وقفته وعبرة خفية تتراءى من بريق عينيه الواسعتين.
تجمهرٌ غريبٌ كان هناك ، صدمة البلدة بهذا النبأ لم تبقِ مكانًا لمباهج العيد ومسدسات الأطفال .
افترش الناس العشب اليابس والسلاسل الحجرية قبل أن تصل مركبة " أبو محمود " محمّلةً بالكراسي البلاستيكية الحمراء .
نادى أحد الرجال أن استدعوا أبا سامح لتحضير القهوة المرّة وغليها .
- " هيك مواقف بدها قهوة سادة! " قال الرجل.
وصل أبو سامح معزّزًا ببابور نحاسي صغير وطنجرتين رماديّتين من زمن الانتداب ، وانبرى يحضر القهوة في مخزن خشبي محاذٍ للمنزل.
- "قديش بدو الجثمان تا يصل ؟" همس أبو علي في أذن جاره مصطفى ، لكن سؤاله اصطدم بصمت تامّ .
وعن بعد ظهرت عجوز طاعنة بالسنّ رابطة الجأش مقطبة الجبين تمشي ببطء ، وقد اتكأت على كتف حفيدتها اليافعة ، كانت تلبس ثوبا ناصعا يحيط خصرها زنّار عريض أحمر ، مشت بوقار وثبات حتى وصلت القُصّة المحاطة بأشجار التين ودالية العنب ، وقفت قليلا ووضعت عينيها في أعين النّاس قبل أن تَزُجّ بقدميها على عتبة الباب.
كانت هي الوحيدة التي تجرأت على الدّخول .
علت الرؤوس تترقب ذلك الغامض المجهول، لكن الباب سرعان ما أُغلق .
قال لجدته ممازحًا في أحد الأيّام :
- "وينتا يا ستي بدنا نفرح فيكي ؟"
- " أنا بعد سيدك ما بتجوز ! الدُّور عليك هسّا ، نجوى إلها ناطرتك سنتين ، شدّ حالك ".

غابت نجوى عن الأنظار لكنها لم تغب عن الأفكار !
تذكّر الناس جدّه كل الوقت وكانوا يرون به الوريث الوحيد له ، هو الذي ساقهم إلى حيفا وهو الذي طوّب لهم الأرض ، هو الوحيد الذي أجاد القراءة والكتابة ، جلس مع الأطفال الصغار تحت البلّوطة وقرأ القرآن على مسامعهم .
كان نسخة عن جدّه في العطاء والتضحية ، فكيف له أن يغادر ؟
لم يتأخر الجثمان ، كانت طقوس الجنازة سريعة ، ووري الفقيد من عيون الناس وأُدخل إلى أعماق الثرى ، طوى أبو محمود الفَرشة داخل النّعش واستعان ببعض الصبية ليضعوا التابوت في عربة "الطّندر" الخلفية.
وطوى النّاس خلفه أعوامًا كثيرة على تلك الحادثة الشّنيعة ،وكانوا كلما نظروا إلى الوراء وجدوا أنفسهم يكرهون الصّيف، ولا يطيقون البحار ولا الشُّطآن !
أمّا بشير فقد حمد ربه الذي نجّاه من بحر قيساريا ومسجدها الذي صار خمّارة.

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة

.