ضجت قريتنا يوما ضد رئيس المجلس المنتخب !
- ما خطبكم يا قوم ؟ تساءل الرجل ، وحاشيته تملأ أرجاء المكان.
- لن نسمح لك بهدم العريشة .
- عجبي على من يركلون النعمة ، ويرفضون الازدهار والتطور.
- هذه العريشة رمز للكرامة ، هي عريشة " أبو عبد الله " ، ولن تهدم ما حيينا !
وازدادت حدة النقاش ، وارتفعت الجلبة ، واشتبك أخوالي ومن ناصرهم مع رجال الرئيس وأصيب كثير منهم في معركة لم يسبق لها مثيل في قريتنا حتى اهتزت أركان العريشة ! أما نحن الأطفال فقد وقفنا متفرجين مذهولين مما يجري .
وقبل أن يحل المساء كان وجهاء القرى المجاورة يتوافدون إلى بلدتنا لإيجاد حل لهذه الأزمة .
أما أنا فأسرعت إلى البيت ، فوجدت أمي في حالة من الحنق الشديد وهي تسترجع ما حل بجدها قبل أعوام .
في ذلك العام حلت نسمات الصيف باكرا ، وكانت الأرض سهلة جدا للحراثة ، أبيات العتابا سطرت نفسها نغمات زكية تموج في سهل البطوف ، والفلاحون جميعهم يتبادلون الأغاني والأهازيج ، كان جدي " أبوعبد الله " أكثرهم براعة في ارتجال الزجل حتى ألفيته يوما يقول :
أنا شفتك يا وطن هالليلة بمنامي
محصول قمح في السهل شامخ ونامي
يا سنابل الخير اصحي ولا تنامي
وثبتي الأرض في هوية العـــــرب
لا أنكر أن إعجابي بجدي كان يزيد يوما بعد يوم ، وطالما اعتبرته عنوانا دائما لكل أسراري وآلامي ، كنت أتعمد مرافقته في زياراته لأترابه ومعارفه وأنتظره بصبر على مدخل المسجد حيث منعت من دخوله لكوني طفلة من نسل حواء لا غير!
لقد أحبني هذا العجوز الشهم كثيرا وكان يأبى امتطاء صهوة حصانه أو حمل معوله وفأسه حتى أكون أنا من يجلس على السرج المزركش أمامه.
وكم كنت سعيدة ونحن مقبلان نحو حقله الرحب كصدره الذي فاق صدر حاتم ، كم كان كريما مضيافا ، ففي الوقت الذي كان حصانه يباري الريح ويشق التلال والهضاب متلهفا وباحثا عن محراث خشبي قديم ليطعن به الثرى مسطرا التراب ببراعة فائقة ؛ كان جدي العزيز يباري الرياح في إغاثة البائسين وإكرام أهل الفاقة والعبرات.
في تلك الفترة من سني طفولتي كان سهل البطوف يعانق نسيم بحر حيفا معلنا إقبال الصيف ، قضى الفلاحون لياليهم تلك في عرائشهم المنصوبة تشوقا لموسم الحصاد ، الأمن مستقر والكل في رغد من العيش ، أذكر أن الابتسامة لم تفارق محيا جدي وهو ينبطح على حصيرته المصنوعة من القش وأنا أقفز بين ذراعيه كغزالة مدللة . الجو خمسيني ولهب الحر يخترق النفوس والأجساد وكأنه منتزع مباشرة من الشمس التي جلست بعنفوان فوق أكتاف الجبال .
ويوما ما دخل رجل غريب عريشة جدي تحيطه قوة من الجنود ، وكان يحمل رسالة ووثائق تطالب صاحب الأرض بإخلائها وفق أمر محكمة إسرائيلية قضت بمصادرة الأرض لصالح شارع عام يصل بين البلدات اليهودية الجديدة !
لم يرتبك جدي بتاتا ، واشرأب في وجه ذلك الساعي قائلا : لن تمر الشوارع من هنا إلا على جثتي !
ورحل الساعي ومن معه بعد أن أوصلوا رسالتهم بمكر ودهاء.
كانت تلك الرسالة قد سُلّمت إلى كل الفلاحين ممن يملكون الأرض ، فضجت البلدة في تلك الليلة على غير عادتها ،
قال المختار : لا بد لنا من محام بارع ! فرد عليه جدي : محامينا بندقية ورصاص !
قال شيخ المسجد : نحن في ذمتهم ! فأجابه جدي : بل الجهاد الجهاد !
كان المنجل لا يغادر زند ذلك العجوز ، وكان يرفعه في وجه كل من يبدي تنازلا أو استسلاما أو تخاذلا .
ومر شهر كامل على هذا الحال وأهل البلدة في كدر وتخبط ومأساة ، أما جدي فكان قد نوى الحرب والمواجهة رافضا كل أشكال الحوار معهم ، فالأرض كالعرض لا تنازل عنها .
في ظل هذه الأجواء المشتعلة أضحى " سعد خبايا " طويل العمر وراح يجود لنا بخفايا هذه الأرض الطيبة من حشرات وعقارب وعناكب مخيفة ، لكني لم أتوقع يوما أنه سيجود لنا بخبايا من نوع آخر !
استيقظ الفلاحون يوما وإذا الصراخ !
كانت أم ابراهيم جارتنا هي التي فتحت باب العويل ، وحينما نزل الناس إلى الكروم والحقول لم يجدوها ، فاستداروا بأبصارهم بحثا عنها في كل الجهات ، ها هي قد أصبحت خاوية خالية من أهلها تحيطها المستوطنات والمعسكرات ، في ذلك اليوم كانت صرخات الفلاحين تتعالى من داخل العرائش حزنا وألما على مقتل جدي الذي جاءته رصاصات غادرة من الغرب ، وهو يحرس الأرض من داخل العريشة .
كان ضيافن الوطن يبتلعون الأرض والأرواح يوما بعد يوم ، دون أن تطلق رصاصة واحدة صوبهم.
صارع جدي الموت في ليلة كاملة وقاوم الألم كما قاوم المحتل من قبل ، لكنه لم يصمد كثيرا وارتحل .
ارتحل جدي عن هذه الفانية مقتولا ، ورحلت بعده عرائش القش جميعها من السهل .
سكتت أمي عن الكلام والبكاء أما صرخات جارتنا فما زالت تسمع حتى اليوم .
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net