كان الحاج ربحي يجلس متأملًا وهدوءه المعهود في ساحة منزله المرصوفة ترافقه نغمات عصافير الدوري وقد تجمعت على شجرة الكينا المقابلة لبيته مع حلول المساء.
ومنذ ان ماتت زوجته أم شفيق قبل خمسة أشهر ونيّف وهم يحاولون إقناعه بالزواج من أخرى !
"الدنيا ملانة بنات حلال يابا ، وصار لازملك مَرَة محتشمة توقف معك وتصون بيتك في اخر حياتك " . خاطبه ابنه الأصغر مراد بكل جدية .
لكن الأب العجوز رفض ذلك معلنا ولاءه لمن رحلت ، ثمّ سرعان ما انتكست أحواله وارتكست نفسيته وبقي حزينا ينظر إلى السماء وكأنه بانتظار أمر ما .
طالت جلساته المسائية وراحت تمتد نحو الليل العميق ، ذلك الليل الجهنمي الملعون، لم يكن يكرهه فقط ، بل كان يضيء فيه كل مصابيح المنزل هربًا من الظلمة التي تركها خلفه ساعة الدّفن.
ويوما ما وفِي ساعات الأصيل أطلت على الحي سيّارة صفراء صغيرة يعترضها خطّان أسودان .
توقّفت سيّارة الكوبِر بجواره ، وما هي إلا ثوانٍ حتى تغيّر مزاج العجوز فجأة ! ووصلت به الأمور إلى درجة الغليان ، ضاقت أنفاسه حتى شعر باختناق شديد وغصة عظيمة في صدره ، صار عرقه يتصبب من وجهه المنكمش الصغير وقد تضاعف حجم الثالولة في أنفه الأحدب .
تناول أطراف حطته البيضاء وراح يمسح العرق من محياه حتى اختنقت الكوفية أيضا مما حل بها .
رأى فتاة مبتهجة وقد تدلى شعرها الأشقر الذهبيّ على خديّن من الورد الغمّاز ، كحيلة العينين تسحق المساحيق وجهها !
كانت الفتاة تتبوأ مجلسها على متن مقعد جلدي أسود تحتضن مقوَدا لولبيا مطرّزا ببقع الفهود الأفريقية .
اقترب العجوز من النافذة المفتوحة متسائلا ، والعكازة لا تفارق قبضته :
- " بنت مين إنتِ يا سِيدي ؟ "
نظرت الفتاة إليه باشمئزاز وكأنها تحتج على تطفله :
- " بنت ابراهيم الهشام ! "
- " بنت ابراهيم الهشام بيّاع البصل والثومة ؟ "
هزّت رأسها المتعجرف إلى الأمام ، ثمّ وضعت باطن مرفقها على حافة النافذة واستدارت بوجهها نحو راديو السيّارة مشغلة نفسها به .
كانت صدمة العجوز كبيرة عندما اكتشف ان والد الفتاة هو ذلك التاجر الساذج الذي كان يحضر يوميا من الخربة المجاورة وهو يركب حماره الهرم باحثا عن لقمة عيش كريمة .
ثمّ تذكّر ملابسه البالية وأهدامه الممزقة وفقره المدقع !
- " ولمين هاي السّيارة يا سِيدي ؟ "
لم تلتفت إليه ، وراحت تبحث عن شخص يرشدها إلى عنوان ضالتها .
لكنها عندما ألفت الحيّ فارغا من المارة ، عادت إليه وعلامات التأفف على وجهها :
- " ممكن تدلني على بيت مراد الربحي ؟ "
شحب وجه العجوز مجددا ، وصرخت الأفكار في رأسه ، ثم هرب بسهام عينيه الداكنتين إلى الأفق .
في تلك اللحظة كانت سيّارة كُوبر أخرى تتراءى عن بعد ، وشُبّان الحيّ كل في انتظار ، وهم يغمرون أنفسهم بعطر الحب ونوايا السهر والضياع .
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net