الشماس مجدي أسامة هاشول في مقاله:
في كلّ نمو نحتاج إلى حوار، مع الذّات، مع الله، ومع الآخر، نحتاج إلى إصغاء، إلى تفكير وإلى إعادة تفكير، نحتاج أن نتكلّم وأن ننصت، لأنّنا ولدنا عبر التّواصل وننمو عبر التّواصل
نعرف من المعلومات المتفرّقة كثيرًا، وقليلا عن كيف نحيا، نعرف كثيرًا عن أمور كثيرة ونعرف قليلًا عن كيفيّة التّعامل معها بنوعيّة وروحيّة سليمة
أمام موجة التّطرّف الجارف، الفكري، الدّيني، الحزبي والأيديولوجي، وأمام سرعة الحياة الّتي تسرق منّا عظمة اللّقاء وقيمة الإنسان والأشياء، نصرخ صرخة الحياة! أمام الإنسان العصريّ الّذي يتعرّض لِـ"حضارة" التفوّق على الآخر، لا من أجل الآخر، ولحضارة الاستهلاك لا الإنتاج - وإن أنتج يتّضح بعد حينٍ أنّ الكثير ممّا "أنتجَ" قد كان عبر السّرقة الأدبيّة والتّقنيّة والمعلوماتيّة بدل الأمانة والأصالة - أمام هذا كلّه نصرخ لنهضة الإنسان!
واقع اليوم – بين المقلّد والمبدع:
في واقع حياتنا اليوميّ، صرنا نلحظ أنّ شيئًا ما في مكان ما لم يعد كما ألفناه، ولم يعد بجماله وجوهره وتألّقه، صرنا نرى وكأنّ الأمور تعيد بعضها، الأشخاص تعيد بعضها، التّصرّفات تعيد بعضها، الأقوال تعيد بعضها، والخطابات على أنواعها تعيد بعضها، وكأنّنا في مسيرة عالقة، بل تعود إلى الوراء، أليس حيث الرّكود يكون التّعفّن والهلاك؟
منهجيّة التّطوّر:
لقد ثبت للجميع أنّ للعلم والتّكنولوجيا دور واضح في تسهيل حياة الإنسان، وفي إغنائه بالفكر والثّقافة وأدوات الاتّصال إذا ما أراد لذلك سبيلا. وفي الأطر المختلفة مساحة لتربية الأجيال وتطوير المواهب وصقلها إذا ما أرادت لذلك سبيلا. ولكنّ السّؤال الرّئيس هو كيف يتعامل أبناء عصرنا مع هذه الآليّات والأدوات والأطر، وكيف نستطيع أن نُوظّف كلّ ذلك في سبيل بناء الإنسان، وفق عقليّة سليمة لكُنه الحياة ومعناها وقيمتها ومسارها..
نوعيّة المعرفة وتراث الأجيال الغابرة:
صرنا نعرف كثيرًا ونعرف قليلًا! نعرف من المعلومات المتفرّقة كثيرًا، وقليلا عن كيف نحيا، نعرف كثيرًا عن أمور كثيرة ونعرف قليلًا عن كيفيّة التّعامل معها بنوعيّة وروحيّة سليمة. نتهافت صوب الجديد وننسى تراث الأيّام الغابرة، أو نغرق في الأحكام الضّيّقة ونبني ثقافة تطابق أحكامنا، بدلًا من أن نوسّع آفاقنا وقلوبنا لنُحتلِن بالحريّ أحكامنا.
في ومِن ولهذا العالم أُسمع الصّوت:
في عالم يبحث عن نفسه خارج نفسه، ويغرق.. في عالم ضاع في الغد ونسى الأمس ولم يحسن أن يعش اليوم.. في عالم مليء بكلّ شيء ولكنّه فارغ في ومِن نفسه.. في عالم احتوى الكثير من القشور واكتسب القليل من الجوهر.. في عالم كهذا ندعو ونخطب لتكون له الحياة.. ليعود له حسّ الرّسالة، لتتعزّز به القيم، ليرتقي به الإنسان، ليرتفع شأن التّراث، لتُبنى فيه الحضارة!
بين الحوار والصّراع:
في كلّ نمو نحتاج إلى حوار، مع الذّات، مع الله، ومع الآخر، نحتاج إلى إصغاء، إلى تفكير وإلى إعادة تفكير، نحتاج أن نتكلّم وأن ننصت، لأنّنا ولدنا عبر التّواصل وننمو عبر التّواصل. ولكن إذا ما انقطع التّواصل دخل التّطرّف، أيّ الّذهاب للطرف البعيد الشّاذّ عوضًا عن الاتّزان والاعتدال في الوسطيّة البنّاءة، لأنّنا حين نفقد الطّرف الآخر، نظنّ أنّنا نعرف الحقّ كلّه ونعرفه وحدنا، وكأنّ الله خلق البشر دون عقول وألباب وضمائر. في تغييب الآخر قد نفقد الصّراع معه، ولكنّ لن نقي أنفسنا من الصّراع مع الذّات، ولن نغنيها بجمال العلاقة، ولن نكون بالحقيقة معا وإن وجدنا في مساحة ضيّقة بحكم الظّروف والأحوال.
صراع أبناء الجهل والتّطرّف:
لا نحتاج اليوم إلى مُخبر يحدّثنا عمّا يُسمّى ب "صراع الحضارات" و "صراع الأديان"، وإن كانت الحضارات والأديان بريئة منه، وهو ليس سوى "صراع الجهلة" و"صراع المتطرّفين" الّذين يستخدمون هذه وتلك لمآرب ومصالح شخصيّة قبل أيّ شأن آخر. هو صراع الّذين لا يعرفون قيمة الآخر وتراثه، صراع الّذين يرَون بالمختلف تهديدًا لا فرصة لقاء، صراع الّذين وقعوا بعلم أو بغير علم، في هاوية الـ "أنا" المطلقة، فباتوا يستنفدوا كلّ شيء وكلّ شخص وكلّ معتقد وكلّ فكر "من أجلّ كلّ شيء" لا بل من أجل شيء واحد هو: هُم.
إلى تربية سليمة نافعة:
بعد أن قرأت هذه الحاجة في مجتمعنا متعدّد الديانات والحضارات والأيديولوجيّات، شرعت بعد مقالات عديدة على بناء مشروع مادّة التّراث والأديان والحضارة، لتُعلّم في مدارسنا الثّانويّة، وتُعدّ لنا جيلًا جديدًا، يعرفُ الآخر ويقبله ويسعى معه صَوْبَ الأفضل. وكانت مدرسة "Terra-Santa" في مدينة عكّا، بسعة صدر إدارتها وتنوّع أبنائها، هي التّربة الخصبة لأطرح عليها هذا البرنامج، فنربّي فيها عبره على كرامة الإنسان ورفعته وعلى قبول الآخر بآخريّته، وعلى النّظر إلى الجميل والمشترك في كلّ شيء، حتّى يسعنا أن ننظر أيضًا للمختلف باعتبار وتقدير واحترام.
هكذا شرعنا في بداية السّنة الدّراسيّة بمبادرة استثنائيّة صَوْبَ استخراج كنوز التّاريخ لنتناول أوّلا مفهوم التّراث والدّيانة والأخلاق ودورهم في صقل الإنسان وبنائه، وثمّ الإبحار بنهج موضوعي وإيجابي في تراث وقيم الدّيانات المختلفة (الهندوسيّة، البوذيّة، اليهوديّة، المسيحيّة، الإسلاميّة، الدّرزيّة والبهائيّة) والحضارات المختلفة (السومريّة، الأكاديّة، البابليّة، الفرعونيّة، اليونانيّة، الرّومانيّة، وثمّ الحضارة العربيّة بمختلف الحِقب: الوثنيّة القديمة، حُمَيْر، سبأ وتدمر، فالأنباط، ثمّ العرب المسيحيّين قبل الإسلام من مناذرة وغساسنة، ثمّ الحضارة العربيّة ما بعد الإسلام وحتّى يومنا هذا) وتناوًل سيَر شخصيّات مميّزة من خلفيات مختلفة، كانت قد بَرعت في خدمة المجتمع والإنسانيّة. وثمّ أختم هذا البرنامج بإلقاء الضّوء على قيمة الإنسان وكرامته وحقوقه الطّبيعيّة وعلى الإعلانات المتنوّعة عبر العصور في سبيل توضيحهم والدّفاع عنهم. وكلّ ذلك يهدف لتطوير الوعي وإنماء النضوج المطلوب لخلق حضارة تقبل التّنوّع وتشجّع على الحوار وقبول الآخر، حتّى عبر استخراج كنوز الأمس الثّمينة واتجازات التّاريخ الغابر، نقدّم مساهمتنا الوضيعة لتكون نبراسا للأجيال القادمة.
خاتمة:
في زمان نحتاج به إلى إنسان إلى تراث إلى حضارة، لا ينبغي أن نكتفي بالواقع القائم، بل علينا أن نتوق ونسعى إلى ما هو أفضل وأرقى وأجمل، علينا أن نعود إلى الإنسان فينا، وأن نعود إلى الآخر، فنتواصل بالمحبّة والحقيقة، ونتشارك بإرث العيش وقيم الحياة، هكذا نستطيع أن نكون فعلة حقيقيّة في حَضْرَنَة مجتمعنا وعالمنا.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net