جلال أمين:
هل مجرد النجاح في تحقيق الهدف سبب كاف لاكتشاف أنه لم يكن هدفا جديرا بالسعي من أجله؟ أي أن مجرد تحقيق ارتفاع كبير في مستوى الاستهلاك كاف لبدء البحث عن هدف آخر أكثر جدارة؟
اتسم نمط الحياة الأميركية من البداية بميزة لم تتوفر لأي نمط آخر من الحياة، وهي توفر السوق البالغ الاتساع، الناتج عن الحجم الكبير للسكان مع ارتفاع متوسط الدخل.
سمح هذا للسلع والخدمات بأن تنتج بنفقة مخفضة، وبتطوير وسائل الدعاية والتسويق مما سمح لهذه السلع بغزو العالم.
هكذا كانت بداية ظاهرة نجوم السينما في هوليوود، الذين قدموا للناس باعتبارهم رموزا للحياة السعيدة، الجمال والرشاقة والصحة والرخاء.
لا عجب إذن أن أصبحت معايير النجاح في هذه الأمور هي ما يتوفر لنجوم أميركا من النساء والرجال المشهورين، وتطلع الملايين من الشباب الراغبين في حياة أفضل إلى أية فرصة تتاح من أجل الوصول إلى ما وصل إليه الأميركيون، أو على الأقل استخدام ما اعتبر رموزا للحياة الأميركية، كبنطال الجينز، أو تقليد قصة الشعر، أو الإهمال المتعمد فيما يرتدى من ملابس..إلخ.
بدأ هذا كله منذ أكثر من سبعين عاما، ومن الشيق أن نتساءل عما حدث لهذه الظاهرة الأميركية منذ ذلك الوقت؟!.
لقد جاءت هذه الظاهرة إلى الوجود في أعقاب عقد من المتاعب الاقتصادية، التي انتشرت في البلاد الصناعية ثم انتقلت منها إلى سائر أجزاء العالم، وهو عقد الثلاثينيات من القرن العشرين، تلته خمس سنوات من المشاق والقيود التي فرضتها الحرب.
لم يكن غريبا إذن أن تبدأ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ظاهرة المجتمع الاستهلاكي، التي تعتبر ارتفاع مستوى الاستهلاك أهم أهداف الحياة وأهم عناصر السياسة الاقتصادية، ومن ثم اتخاذ ما يحدث في الولايات المتحدة مثالا يحتذى به واعتباره رمزا للحياة الناجحة والسعيدة.
من الطريف أن نتذكر ما كتبه المؤرخ الأميركي والت روستو (W.Rostow) في كتاب شهير بعنوان، مراحل النمو الاقتصادي، وحقق نجاحا مبهرا في العالم كله وقال فيه إن«أعلى مراحل النمو الاقتصادي هي مرحلة الاستهلاك الكبير» حيث يعم استهلاك السيارة والثلاجة الكهربائية وسائر السلع المعمرة، ويصل إليها المجتمع بعد أن يمر بما أسماه مرحلة المجتمع التقليدي«، ثم مرحلة التمهيد للانطلاق، ثم مرحلة الانطلاق( Take Off) ثم يعقبها اتساع نطاق الاستهلاك الكبير وانتشاره في المجتمع، وهو ما يوحي كتاب روستو بأنه يعتبره»الهدف الأسمى" للتطور الاقتصادي.
ظهر هذا الكتاب في مطلع الستينيات، أي منذ أكثر من نصف قرن، وكم تبدو لنا هذه الفكرة الآن ساذجة، كما يبدو أنها تنطوي على تبسيط للأمور يزيد على الحد.
ولكن انتشارها في ذلك الوقت لا بد أن يدل على استعداد كثيرين لقبول تلخيص أهداف الحياة في هذا الهدف الواحد: مزيد من استهلاك السلع والخدمات التي تجلب المتعة والراحة.
كانت السبعون عاما الماضية كافية، فيما أظن، لتعلمنا أن الحياة أكثر تعقيدا من هذا بكثير، ولكن هذا التطور يعلمنا أيضا كيف تخضع أفكار الناس لتأثير عوامل عارضة، وسرعان ما تتغير الأفكار متى زالت هذه العوامل، ما الذي حدث يا ترى لتحدث هذه النتيجة؟
هل مجرد النجاح في تحقيق الهدف سبب كاف لاكتشاف أنه لم يكن هدفا جديرا بالسعي من أجله؟ أي أن مجرد تحقيق ارتفاع كبير في مستوى الاستهلاك كاف لبدء البحث عن هدف آخر أكثر جدارة؟ أم أن الآثار المتعددة لارتفع الاستهلاك كانت غائبة عنا ومن ثم لم تكن مدارك أن بعد هذه الآثار قد يكون مكروها بل ومدمرا لأشياء أخرى طيبة في الحياة؟
ما أريد أن انتهي إليه هو أنه قد حدث في العقود السبعة الماضية ما أدى إلى تغير نظرة ملايين من الناس في مختلف بلاد العالم، ما أدى إلى أن فقد النمط الأميركي للحياة الكثير من سحره.
* نقلا عن "البيان"
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net