عدنا لزيارة دير مار سابا في بريّة العبيديّة قرب بيت لحم، فعلى رأي خلف العبيدي "بلادنا متحف كبير لمن يفهم معنى الجمال"، عندما وصلنا منتصف بلدة العبيدية، اعترض طريقنا بالصدفة محمد الابن البكر لخلف العبيدي، فأقسم علينا أغلظ الأيمان بأن نحتسي القهوة حيث يسكن في وادي حُجر، قرب المكان الذي بني فيه والده المنتجع السّياحي المهدوم، وهناك أصرّ مرافقاي أن نتجوّل قليلا في الوادي قبل أن نحتسي القهوة، وذلك لخوفهم من أن تتراخى عزيمتنا ونصاب بالكسل، قبل أن نواصل مسيرتنا إلى دير مار سابا التّاريخي، ونزلنا من السّيّارات في الوادي على بعد أقلّ من خمسين مترا من البيت وحظائر الغنم والخيول، والمنتجع المهدوم، واتّجهنا شمالا حيث حقل الزّيتون. مررنا بشجر القطف، وهو شجر ينمو في وديان الصّحراء الفلسطينيّة، وغالبا ما ينمو في التّربة الجيريّة، وله أوراق تشبه أوراق شجر الزّيتون، وإن كانت أصغر منها حجما، وهذه الأوراق لا تأكلها إلا الجمال، وأبناء البادية الذين يقطفونها ويطبخونها مع اللبن، وقد تذوّقتها في بداية حياتي عندما كنّا نقتني الأغنام، ونسكن البراري حيث المراعي الواسعة.
توقفت عند شجرة قطف، فرأيت أفعى تلتف عند جذرها، فحملت حجارة لأقتلها، وقبل أن أقذف أيّ حجر باتّجاهها انتبه لي محمد خلف العبيدي، فصاح بي؟ ماذا تفعل؟ وعندما أخبرته عن الأفعى طلب منّي أن أبتعد عنها، واقترب من الأفعى، مدّ يده إليها وقبض على مؤخّرة رأسها، وشرع يشرح لنا عنها وممّا قاله عنها:"هذه أفعى غير سامّة، كان طولها حوالي 120 سنتميتر، اقترب منّا أكثر وقال: هذه أفعى حقول مسالمة، انظروا إلى فمها فلا أنياب لها، وأضاف: انظروا إلى لونها الأخضر الزّيتيّ، وشاهدوا جمال لونها، فعلى عمودها الفقري ما يشبه الجديلة الجميلة.
ثم وضعها على رقبته لتتدلى على صدره وهو يضحك، وبعدها عدنا معه حيث جلسنا في مغارة مفروشة بالفراش العربي، وفي جانب منها كنبات لمن لا يريد الجلوس على الفراش، وفي الزاوية كان "مرطبان" زجاجي، يتّسع لتنكة ماء، في داخله أفعى صفراء رقطاء، أشار إليها مضيفنا وقال:" هذه الحيّة الزّعراء"اسمها "الأفعى الفلسطينيّة" لأنّها لا تعيش إلا في فلسطين، وهي أفعى سامّة وخطيرة، أمسكتها في ساعات الصباح، سأستمتع بمنظرها هذا الصّباح وسأطلق سراحها عند المساء، وأخبرنا عن تواجد أفاع كثيرة من جنسها في تلك المنطقة، وواصل حديثه مستمتعا كيف يلقي القبض على أفاع كثيرة، سامّة يداعبها ثمّ يطلق سراحها، ولفت انتباهي عندما قال: "هذه الأفاعي، والضباع والثّعالب والذئاب والعقارب جزء من جمال الطبيعة في بلادنا، وهي ليست مخيفة لمن يحسن التعامل معها، احتسينا القهوة ونحن نتكلم عن خوفنا من الأفاعي والعقارب وذكرياتنا معها، بينما كان محمد خلف سعيد بها، وعندما استأذنّا بالانصراف، وصل خلف العبيدي والد محمد، فأقسم علينا أن لا نبرح المكان قبل أن نتناول غداءنا، وأشار إلى ابنه الذي غادرنا؛ ليذبح خروفا، بينما أشعل ابنه الثّاني الذي كان يعلف الأغنام والخيول الكانون، لندخن الأرجيلة، واستعدادا لشواء الخروف، وعندما خرجنا من المغارة لنتناول طعامنا من النّار مباشرة، مرتّ من أمامنا كلبة لزنها أبيض مع بقع سوداء كبيرة، خلفها ثلاثة جراء، اثنان منها تشبه الذّئاب، فلفقتت انتباهي وسألت عنها: فقال خلف: بالتأكيد هذه الكلبة حملت بالجراء من ذئب، فهذه المنطقة فيها ذئاب برّيّة، ومعروف أنّ الكلاب تتزاوج مع الذّئاب ومع الثّعالب، فكلّها من الفصيل الحيوانيّ نفسه، فابتسم صديقنا مؤيّد وسأل مازحا: هل يزور الذّئب أبناءه عندكم، فضحكنا ممّا قال.
وطال بنا الحديث الذي كان ذا شجون حتّى حلّ المساء قبل أن نزور الدّير. فغادرنا عائدين إلى بيوتنا على أمل العودة في يوم آخر لزيارة الدّير.