القاضي جبران والإنجاز التاريخي!/ بقلم: سليم سلامة

كل العرب
نُشر: 01/01 11:31,  حُتلن: 15:02

 سليم سلامة:

لا يمكن أن يجلس شخص في هذا الموقع ويستخدم المرجعيات والأدوات الملزمة ذاتها، ثم أن يتوصل إلى تفسيرات ونتائج غير تلك التي توصل إليها القاضي جبران أو بعيدة عنها

إثر الاضطرار إلى إخلاء "عمونا"، وضعت الحكومة ما أسمته "الحل البديل" الذي جاء بالاتفاق والتنسيق التامّين مع المستوطنين وقادتهم، بل نزولا عن رغبتهم وإذعانا لإرادتهم

يكون القاضي جبران قد أقرّ ـ في محصلة تسويغاته ـ جملة من فرضيات الأساس القانونية المبدئية التي يقوم عليها المشروع الاستيطاني الاستعماري في الضفة الغربية

في الاحتفال الوداعي الذي أقيم في المحكمة العليا في أوائل آب الماضي، بمناسبة خروج القاضي سليم جبران إلى التقاعد، تكرر في كلمات المحتفين والمبارِكين مصطلح "انجاز تاريخي" ـ بمعنى، أن القاضي سيلم جبران حقق "إنجازا تاريخيا" بكونه العربي الأول الذي يشغل منصب قاض (بمقعد دائم) في المحكمة العليا الإسرائيلية. وكان بعض المتحدثين استخدموا هذا المصطلح بصيغة أخرى تقول إن جبران "صنع تاريخاً".
في المسوّغات القانونية التي بسطها لحُكمه القضائي الأخير (صدرت مؤرّخة بـ 31/10/2017، بينما السطر الأخير من هذا القرار ـ أي نتيجته العلمية ـ صدر يوم 1/2/2017، بأغلبية رأيي القاضيين جبران ويورام دنتسيغر، بينما عارضه القاضي نيل هندل)، يمكن القول أن القاضي جبران ـ في هذه المسوّغات ـ قد "صنع التاريخ" مرة أخرى وسجّل "إنجازا تاريخيا" جديداً بأنْ كان القاضي العربي الأول الذي يقرّ، في نص قضائي مُلزِم وموجِّه، جملة من المقولات القضائية ـ القانونية ذات الأبعاد والاسقاطات السياسية العميقة والخطيرة جدا في كل ما يتعلق بشرعية المستوطنات والمستوطنين وشرعية الاستيلاء الاستيطاني ـ الاستعماري على الأراضي الفلسطينية.

القرار (السطر) الأخير في هذا القضية كان إيجابياً، وهو قبول التماس مجموعة من أهالي بلدة سلواد الفلسطينية (محافظة رام الله) ضد مصادرة أراضيهم والاستيلاء عليها لصالح مستوطني عمونا، الذين أرادت الحكومة الإسرائيلية نقلهم ونقل مستوطنتهم إليها، في أعقاب إخلائهم الاضطراري ـ بعد مماطلات استمرت ست سنوات ـ من "بؤرتهم" الاستيطانية المقامة على أراضٍ فلسطينية خاصة، تنفيذاً لقرار سابق صدر عن المحكمة العليا.
فإثر الاضطرار إلى إخلاء "عمونا"، وضعت الحكومة ما أسمته "الحل البديل" الذي جاء بالاتفاق والتنسيق التامّين مع المستوطنين وقادتهم، بل نزولا عن رغبتهم وإذعانا لإرادتهم. وتمثل هذا "الحل" بـ"إزاحة مستوطنة عمونا" و"إقامة موقع سكني مؤقت" على أراض تابعة لفلسطينيين من سلواد، لصالح المستوطنين الذين تم إخلاؤهم من عمونا. أما "المؤقت" هنا، فهو حديث الحكومة، في مخططها هذا، عن "فترة سنتين، يتم خلالها فحص إمكانية المصادقة على مستوطنة طويلة الأمد في القسائم المجاورة لعمونا". ولكن، ليس من دون ترك الباب مفتوحاً أمام "تمديد تصاريح البناء في القسائم المذكورة لفترة قصيرة أخرى"، وفق ما تقتضيه الحاجة والإجراءات. وهو ما يعني، بالنظر إلى نهج هذه الحكومة ومماطلاتها المتكررة في تنفيذ قرارات قضائية صادرة عن المحكمة العليا، بل تجاهلها تماما أحيانا، أن تحويل هذا "المؤقت" إلى دائم وثابت هو في شبه المؤكد، على الأرجح.

لكن القاضي جبران توصل إلى النتيجة النهائية الإيجابية في القضية العينية (منع الاستيلاء على تلك الأراضي المحددة في سلواد)، بسبب ما وجده من "خلل" إجرائي في قرار الاستيلاء على الأرض لأنه (القرار) "اتخذ وسط خرق حق الادعاء المحفوظ لمالكي الأرض" ولأنه "لا يلبي شرط التناسبية" ولأنه "يحيد عن سياسة الحاكم العسكري المتبعة بأنه يخرج عن نطاق المعقولية"!
ومع عدم التقليل من أهمية هذه النتيجة العينية الإيجابية، تبقى المقولات القانونية ـ السياسية التي تضمنها منطوق الحكم القضائي هي الأهم وهي الأخطر. وهي التي رفض القاضي جبران، من خلالها، جميع طعونات الفلسطينيين أصحاب الأراضي وادعاءاتهم بينما قبل ادعاءات الدولة والمستوطنين وطعوناتهم، وأهمها بشأن: 1. صلاحيات القائد العسكري صلاحياته بمقتضى القانون الدولي؛ 2. مدى قانونية الاستناد على "الرأي الاستشاري الأمني السرّي" الذي يعتبر إخلاء عمونا "حدثا قابلا للانفجار وذا إسقاطات أمنية تتجاوز حلبة الإخلاء نفسها" وأن "إخلاء المستوطنة بالاتفاق يخدم المصلحة العسكرية، لأن الحل الذي توصلت إليه الحكومة بالتعاون مع مستوطني عمونا هو الحل الوحيد المتاح لإخلاء المستوطنة بالاتفاق" (القاضي رفض ادعاء الملتمسين هذا لأنهم عارضوا تقديم الرأي الاستشاري الأمني السرّي إلى المحكمة وحدها، دون السماح لهم بالاطلاع عليه)؛ 3. واجب القائد العسكري في العمل من أجل رفاهية سكان المنطقة (الضفة الغربية) الإسرائيليين؛ 4. أن قرار الاستيلاء على الأراضي "نابع من اعتبارات سياسية ـ حزبية"؛ وغيرها.
ورغم تأكيد القائي جبران على أن "استيطان مستوطني عمونا على أراض خاصة قد تم بصورة غير قانونية" وأنه "لا خلاف حول واجب الدولة في العمل وفق قرار هذه المحكمة وإخلائهم"، إلا أنه رأى أن "الوضع الذي آل إليه مستوطنو عمونا عشية الإخلاء، فيما بيوتهم معرضة للهدم، يشكل حاجة إنسانية من صلاحية القائد العسكري الاهتمام بها" وأعلن تبنيه لـ"الرغبة في إيجاد تسوية سكنية مؤقتة لهم تحفظ مجتمعهم وارتباطهم بمكان سكناهم"!
كما أكد القاضي جبران على "صلاحية القائد العسكري في المسّ بحقوق الملكية التابعة لسكان المنطقة (الفلسطينيين) المحميين، وذلك لأهداف مختلفة، من بينها الاعتبارات الأمنية والعسكرية"! بما في ذلك "السماح بمصادرة أراض، أو الاستيلاء عليها، لاحتياجات المواصلات ولضمان حرية العبادة للمصلين اليهود"!

وإلى جانب مقولات جوهرية أخرى، يكون القاضي جبران قد أقرّ ـ في محصلة تسويغاته ـ جملة من فرضيات الأساس القانونية المبدئية التي يقوم عليها المشروع الاستيطاني الاستعماري في الضفة الغربية، وهو ما جعل المستوطنين وقادتهم "يحتفلون" بهذا الحكم القضائي ويعتبرونه "حكما قضائيا ثورياً، يؤكد ويكرس المبادئ القانونية التي يقوم عليها الاستيطان".
المشكلة المركزية في ما تضمنته توسيغات هذا الحكم القضائي ليست في هوية الشخص التي ساقها ودوّنها فثبّتها هنا، عينياً، وإنما هي مشكلة بنيوية مبدئية تتمثل في مجموعة المرتكزات والأدوات، القانونية والقضائية، التي شكلت مرجعية القاضي سليم جبران ومنطلقه لدى نظره في هذا الالتماس والبتّ فيه. بمعنى، أنه حتى لو جلس شخص آخر (عربي فلسطيني) في كرسي القاضي جبران للنظر والبتّ في هذه القضية، لكان من المؤكد أنه سيسير في المسلك نفسه ويتوصل إلى المقولات نفسها. ذلك أن المرجعية هنا هي القوانين الإسرائيلية والتفسيرات القانونية ـ القضائية المُلزِمة التي وضعتها لها المحكمة العليا الإسرائيلية في حيثيات قرارات حكم عديدة أصدرتها في السابق. لا يمكن أن يجلس شخص في هذا الموقع ويستخدم المرجعيات والأدوات الملزمة ذاتها، ثم أن يتوصل إلى تفسيرات ونتائج غير تلك التي توصل إليها القاضي جبران أو بعيدة عنها. هذا في حكم المؤكد. غير أن الفارق هنا أن هذا القرار، بتسويغاته ومتضمانته، خرج من تحت يديّ عربي فلسطيني، للمرة الأولى وبصورة غير مسبوقة. وهذا هو "التاريخيّ" الذي قصدتُه في الحديث عن "إنجاز" القاضي جبران هنا.

هكذا هو حالنا، إذن: كثيرون من بيننا، في مواقع (رسمية وسياسية) مختلفة، يفاخرون/ يتبجحون بأننا حققنا ونحقق "إنجازات تاريخية"، كهذا أو غيره، حتى أصبح لسان حال واقعنا يقول: ما ضيّعنا ودمّرنا غير هـ "الإنجازات التاريخية"... التي لا تتحقق إلا على لحمنا المعلَّق ودمنا المُراق..... احذروا "الإنجازات التاريخية" واكفونا شرّها!

 المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net       

 

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة