الدولة الواحدة لشعبين..مرزوق الحلبي
تعثّر المسألة الفلسطينية لا يأتي من سياسات في الجانب الإسرائيلي أو الفلسطيني أو من شروط إقليمية، فقط، بل من انسداد أفق حل "دولتان لشعبين" و"معادلة الأرض مقابل السلام". بمعنى أم مفتاح الحلّ المعمول به منذ انطلاق مؤتمر مدريد على الأقلّ تقادم تماما ولم يعد صالحا لفكفكة الوقائع على الأرض. لم يعد واقعيا ولا عمليا الذهاب في هذا المسار لأنه انغلق على ذاته كبرنامج حاسوب ذكي استعصى على التقنيين المرخّصين والقراصنة. ومن هنا فإن نقد القضية الفلسطينية الآن ينبغي أن يشمل مبادئ الحل المعتمدة منذ مدريد، وليس فقط استراتيجيات الأداء الفلسطيني أو الإسرائيلي أو العربي. وقد وجدنا في هذه المساحة ألف ثغرة وثغرة. أولها، أن الإسرائيليين انتقلوا إلى إدارة الصراع بدل السعي إلى حلّه. وثانيها، أن استراتيجيات العمل الفلسطيني أجهضت إلى حد ما المشروع السياسي ورهنته بالكامل للعبة القوى الداخلية بين "حماس" و"فتح"/السلطة الوطنية وللتجاذبات الإقليمية. ومع هذا نعتقد أن الحل المقترح، بصيغته وأسسه، لم يعد قادرا على اللحاق بالوقائع المتطوّرة على الأرض. هذا ناهيك عن إنه قصّر أصلا عن مقاربة مسألة عودة اللاجئين بروح التصوّر الفلسطيني. هذا لا يعني أن هذا الحل لم يكن ذا جدوى أو ألق في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي أو لدى طرح قرار التقسيم العام 1947.
وسندّعي هنا أن تعثّر المسألة الفلسطينية الآن لم يعد نتيجة للشرط السياسي أو للسياسات، فقط بل يأتي من استحالة تطبيق حل "دولتان لشعبين". وهذا ما يُعطينا إمكانية لفهم قرار النُخب الإسرائيلية إدارة الصراع مع الفلسطينيين بدل حلّه وفهم النكوص الفلسطيني نحو ضبابية تتحرك بين قطبين، الأول ـ اضمحلال مشروع السلطة الوطنية وتراجعه; والثاني ـ العودة إلى فكرة الصراع على الوجود وليس على الحدود كما في بعض أدبيات حماس وغيرها من فرق راديكالية. ومن المفارقات أن تقفز النُخب الإسرائيلية إلى هذا الضباب لتضرب قطبا فلسطينيا بقطب، أو للتذرع بالراديكالي منه لتعزّز المضمحلّ. ومن هنا، لا يُمكن، في المستوى الاستراتيجي، المراوحة في حلّ متقادم مستحيل. وإن كان من الهام والملحّ مواصلة العمل على تجنيب الناس المعاناة اليومية والسعي إلى تخفيف وطأة الاحتلال وممارساته اليومية.
عندما وصل عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية إلى خمسين ألفا خرج ميرون بنبنستي (باحث هام في السياسات الإسرائيلية في المناطق المحتلة) بمقولته الشهيرة أن الوضع في ظل هذا الشرط غير قابل للتحوّل. بمعنى أنه يستبعد كليا تفكيك الاستيطان. وها نحن اليوم، على مرأى ومسمع من قرابة 300 ألف مستوطن في الضفة الغربية! وهم تجسيد لسلسلة طويلة طويلة من التشريعات والقوانين والإجراءات والعقلية والنهج والقوة والسياسات. وقد عاد بنبنستي نفسه في مناسبات كثيرة في السنوات الأخيرة ليؤكّد أن أطنانا من الوقائع على الأرض تعزز مقولته تلك. وهو ما يعزّز فرضية بعض علماء الاجتماع والسياسة في إسرائيل من إن الدولة العبرية التي اعتبرت الاحتلال حالة مؤقتة في مرحلة من المراحل، انتقلت إلى اعتباره حالة دائمة، وأنها في سبيلها لإنهاء حالة الاحتلال انزلاقا إلى الأبرتهايد في كل المساحة بين البحر والنهر. وأمكننا أن نتفق معهم في هذا الطرح مشيرين إلى أن الانسحاب من قطاع غزة لم يأت تطبيقا لقرارات دولية، بل تمشيا مع فكرة إدارة المسألة الفلسطينية وضبط الفلسطينيين وعزلهم مكانيا. يُضاف إلى الاستيطان، حقيقة أن كل تسوية اقترحتها إسرائيل منذ مؤتمر مدريد قضى بأن يبقى الجيش الإسرائيلي على نهر الأردن، باعتباره "الحدود الشرقية لإسرائيل". هذا ناهيك عن أن المعادلة التي كانت متداولة، قفزت فوق مسألة عودة اللاجئين وتحدثت بالإشارة والتلميح إلى إمكانيات التعويض المالي أو العودة الرمزية لبضع آلاف منهم!
ما دامت الحلول التي تم تداولها في إطار "دولتان لشعبين" كانت قاصرة عن تحقيق العدل النسبي ـ القفز فوق مسألة عودة اللاجئين، أو العدل العملي ـ إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، فلماذا لا يُمكننا أن نتجاوز هذه المعادلة نحو مقترحات تفتح أفق التفاوض والحوار من جديد على الممكن والأكثر عدلا القابل للحياة؟ ألم يكن في الانغلاق على معادلة "الأرض مقابل السلام" أو تقاسم الأرض بمعناها الأول، "نحن هنا وأنتم هناك"، والصلاة لما سمي "الخط الأخضر" ضربا من التخلّف وإدخال الصراع في استدامة ودوّامة؟ هناك أوساط في الهامشين الفلسطيني والإسرائيلي تفكّر جديا، منذ انكسار سيرورة أوسلو، من وسطها (وكان خيار الدولة الواحدة طرح بصيغ مختلفة من قبل) في حل "الدولة الواحدة لشعبين" لأنه يوسّع المساحة ويفتح المزيد من الإمكانيات ويخترق معوقات في الواقع الجغرافي والديمغرافي (ويفتح أخرى، أيضا). لكن، الادعاء المركزي الذي اعترض هذا التصور من الجانب الفلسطيني، هو أليس من الأصحّ المرور أولا في مرحلة الاستقلال الوطني وبناء السيادة ضمن دولة مستقلة، تجسّد الهوية ورموزها ومن ثم التفكير بدولة واحدة لشعبين؟ وهي مقولة تفترض أولوية تطبيق أحكام "حقّ تقرير" المصير كما صاغته التجربة السياسية خلال القرن الماضي. أما الجانب الإسرائيلي فقد جُنّ جنونه من هذا التصوّر لأن المشروع الصهيوني من بدايته افترض إقصاء الفلسطيني وتطهير المكان منه. والنُخب الإسرائيلية المستعدة للاعتراف بالمسألة الفلسطينية مستعدّة لقبول الحل في مكان ما "هناك". فمرة يتحدثون عن الخيار الأردني ومرة أخرى عن توطين الفلسطينيين في 21 دولة عربية، أو عن قبول أن يعيشوا ويتحركوا في معازل مثل غزة أو شرقي جدار الفصل العنصري!
يتجاوز حل "الدولة الواحدة لشعبين" فرضيات متقادمة مثل "دولتان لشعبين" و"حق تقرير المصير" بصيغته الخام المشار إليها آنفا. وهي صيغة جاءت تجربة تفكك يوغسلافيا والحرب الأهلية في رواندة لتشكّكا في كونها مُطلقة ونهائية. لأن الدماء التي أهدرت هناك لتحقيق هذه الصيغة جعلتها في الشرط ألـ: ما ـ بعد حداثي أو قومي تطهيرا عرقيا وإبادة جماعية. ونرجّح أن أي صيغة لحلّ "دولتان لشعبين" في السياق الفلسطيني، كان سيُفضي إلى مزيد من التطهير العرقي هنا بحجة ترتيب الحدود أو تعديلها. هذا في حين أن الدولة الفلسطينية التي ستقوم نتيجة لذلك ستكون قاصرة تماما وضيقة، ومجرّد كيان رمزي ذي سيادة رمزية! هذا ناهيك عن أن هذا الحلّ لن يوفّر أفقا للاجئين المنتظرين على أبواب "فردوسهم المفقود"! إن حل "دولتان لشعبين" يلتقي من حيث شئنا أو لم نشأ مع فرضيات الفصل العنصري والعزل المكاني وتشرعنها أو تتواطأ معها وتمنحها نوعا من المصداقية. أما حل الدولة الواحدة فيمكنه أن يفضحها ويُربكها في حال افترضها الواقع الذي يُراد تغييره بمساعدة دولية على المتغيرات في المناخ العالمي والفكر السياسي المستجدّ.
إن الدولة الواحدة لشعبين يُمكن أن تتحقق بكثير من الصيغ أبرزها السعي إلى إحقاق ديمقراطية توافقية (لا ديمقراطية الأكثرية) بين قوميتين أو تطوير صيغة الدولة الفدرالية المكونة من مقاطعات أو أقاليم موزعة جغرافيا أو وفق حدود القومية على أساس توافقي. هذه وتلك من صيغ قابلة للتطوير أو التحديث أو الإبداع على أساس بناء دستوري قابل للتطوّر بمساعدة دولية. من أهمّ ما يُمكن أن ينشأ من صيغة كهذه هو الإقرار بأولوية النضال السياسي المدني السلمي في إطار تسوية تاريخية حقيقية يقبل فيها كل شعب بالشعب الآخر في المكان ذاته كحقيقة ناجز وجملة مصالح وحقوق أهمها الكرامة الجمعية وتحقيق لذات الجمعية ضمن إطار متفق عليه. ومن شأن هذا الطرح، أن يُذكي في البداية عقدة الخوف اليهودي. لكنه سيُفضي في المرحلة الثانية إلى تحرير الخائفين لأن في الخلفية نزعا واعيا ونهائيا من الجانب الفلسطيني للخيار العسكري (وليس لاستراتيجية العنف المدني) الذي أصبح ضرره أكبر من فائدته وشكّل حجة لإسرائيل في إدامة الوضع.
صحيح إن ما نطرحه يشكّل تغييرا جذريا في شروط المسألة الفلسطينية. وهذا صحيح ونطرحه هنا بشكل واع. فهو يتضمن قبولا غير مشروط لليهود كجزء من الجغرافيا والوجود في المكان. ويفترض، أيضا، أن حل المسألة اليهودية التي ولدت وكبرت في حضن أوروبا سيكون في الشرق الأوسط. إقرار فلسطيني ـ عربي بهاتين "الحقيقتين" يشكّل مبادرة من شأنها أن تحرك التاريخ وتمنح مساحات جديدة للعمل السياسي وقدرات للتأثير على الوضع. هذا ناهيك عن إن مبادرة كهذه تجسّد حقيقة كون الفلسطيني جزءا من مكانه وليس غريبا فيه، مقيما وليس عابر طريق.
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد:
مجموعة تلجرام >>
t.me/alarabemergency
للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >>
bit.ly/3AG8ibK
تابع كل العرب عبر انستجرام >>
t.me/alarabemergency