النائب د. جمال زحالقة رئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي:
خيّم شبح الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على اسرائيل كخطر من الخارج اساسًا لكنه خيّم عليها كخطر داخلي من خلال تأثيره وتأثير نهوض الفكرة القومية
علقت صور عبد الناصر في البيوت، وانتظر الناس خطاباته، بالأخص خطاب 23 يوليو، بفارغ الصبر واكتظت المقاهي بالرجال
وصل الخطاب القومي التحرري إلى فلسطينيي 48، من خلال شخصية جمال عبد الناصر الكاريزمية والملهبة للمشاعر، عبر موجات الراديو والتلفزيون، لتثير في الناس الأمل من جديد
ادّى صعود عبد الناصر وتنامي المشاعر القومية عند فلسطينيي 48 إلى ارتفاع في نسبة تصويتهم لقائمة الحزب الشيوعي من 16% عام 1951 إلى 35% عام 1955
من يقرأ بروتوكولات الحكومة الإسرائيلية والوثائق، التي يجري نشرها حديثًا، يعرف كم كان عبد الناصر يغيظ اسرائيل ويسبب لها الأرق
بعد ميلادي بأيام، وبعد أن شاع في القرية نبأ إطلاق اسم جمال على المولود الجديد، استدعى الحاكم العسكري في المنطقة والدي للتحقيق معه، وواجهه بتهمة إطلاق اسم "قومي متطرف" على ابنه. كان الحاكم العسكري يهوديًا من أصل عراقي أجاد الكلام بالعربية أكثر من العبرية، وقال لوالدي (بلهجة عراقية لا أستطيع تكرارها): "لماذا تسمي ابنك بهذا الاسم؟ لماذا تطلق عليه اسمًا قوميًا متطرفًا، اسم شخص يريد تدمير اسرائيل؟ الا تخشى على مستقبل ابنك وتعامل الدولة والمجتمع اليهودي مع شخص اسمه جمال؟ أنا لا انصحك فقط، بل أؤمرك بتغيير الاسم وامنحك حرية اختيار اسم آخر، وهناك اسماء كثيرة بالعربية. ما رأيك مثلًا في اسماء مثل صدّام وجاسم وعلّام؟"
الحقيقة أن والدي لم يطلق عليّ اسم جمال بسبب عبد الناصر، بل لأن اصدقاءه، قبل عام 48، أطلقوا عليه اسم "أبو جمال" كما هي عادة الشباب الفلسطيني وقتها. ولو أنه شعر بخوف من عقاب الحاكم العسكري، الذي كانت لديه صلاحيات واسعة ومن اهمها "قطع الرزق" عن طريق عدم منح "تصريح عمل"، إلّا أنه لم يغيّر الاسم لأن ذلك في العرف الاجتماعي خيانة للأصدقاء.
اسم جمال بدأ بالانتشار السريع والواسع ولم يعد بإمكان الحاكم العسكري محاربة الاسم، لكنه استمر في اعتبار إطلاق هذا الاسم على أي مولود عملًا عدائيًا للدولة ودليلًا على خطورة ما يحدث في صفوف فلسطينيي 48.
شبح الناصرية
لقد خيّم شبح الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على اسرائيل كخطر من الخارج اساسًا لكنه خيّم عليها كخطر داخلي من خلال تأثيره وتأثير نهوض الفكرة القومية العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي على فلسطينيي 48 وعلى وعيهم وعلى مشاعرهم ووجدانهم، والأهم على حراكهم السياسي.
عاش فلسطينيو الداخل، الذين بقوا في وطنهم بعد النكبة، تحت حكم عسكري اسرائيلي مباشر منذ عام 1948 حتى عام 1966. بلغ عددهم بعد النكبة 153 الفًا وارتفع ليصل اليوم الى 1.5 مليون نسمة. اعتمدت السياسة الإسرائيلية الرسمية سياسة تدجين وتشويه لوعيهم وعملت على إعادة صياغة هويتهم الخاصة والمنفصلة عن شعب فلسطين وعن الأمة العربية تحت مسمّى "عرب إسرائيل" بحيث تكون هويتهم السياسية اسرائيلية كمواطنين "مخلصين" وهويتهم العربية فولكلورية منزوعة من أي بعد وطني وقومي وسياسي. واستثمرت اسرائيل لأجل ذلك صحف ومجلات ونشرات صهيونية باللغة العربية، وكذلك إذاعة ناطقة بالعربية وجهازًا من الأوصياء عليهم معظمهم من يهود الدول العربية. واستعملت اسرائيل كذلك جهاز التعليم للترويج للرواية الصهيونية بتغييب كامل لكل ما هو فلسطيني.
وقع الفلسطينيون في الداخل بين مدينتين، تل ابيب التي عملت على محو هويتهم وإلحاقهم بالمشروع الصهيوني، والقاهرة التي سطع منها شعاع الثقافة القومية العربية وولّدت في الناس مشاعر العزّة والكرامة وانقذت هويتهم من براثن تل ابيب. عاش الفلسطينيون في الداخل معزولين تمامًا عن شعبهم الفلسطيني وعن العالم العربي، ولكن صوت العروبة وصلهم، وبقوّة، من خلال خطابات جمال عبد الناصر والاذاعة المصرية ومحطة صوت العرب وإلى حد ما التلفزيون المصري. وكذلك كانت أغاني وافلام وروايات الحقبة الناصرية غذاءً روحيًا للناس جعلهم يتقززون ويبتعدون عن أي انتاج "فنّي" اسرائيلي.
علقت صور عبد الناصر في البيوت، وانتظر الناس خطاباته، بالأخص خطاب 23 يوليو، بفارغ الصبر واكتظت المقاهي بالرجال، الذين تابعوا كلامه عبر التلفاز وتلقفوه جملة جملة وكلمة كلمة وهتفوا بحياته وحياة الثورة والقومية، واعتبروا من يهاجمه "عميلًا لإسرائيل"، ووصلت رسائله السياسية والقومية إلى كل بيت وكل جيل. كانت حالة شعبية قل مثيلها، وكان شعبنا الفلسطيني في الداخل ناصريًا في وجدانه، حتى اولئك الذي اضطروا الى مسايرة الدولة العبرية في سبيل لقمة العيش، مثل معلمين وموظفين واصحاب محال تجارية وغيرهم.
أربك هذا التطور المؤسسة السياسية والامنية في اسرائيل، وحين طرحت فكرة الغاء الحكم العسكري لمتطلبات سوق العمل والاقتصاد الاسرائيلي، رفض "إيسر هرئيل" رئيس جهاز المخابرات بشدّة مدعيًا بأن التطورات في المنطقة وصعود عبد الناصر وتأثيره على "عرب اسرائيل"، لا تسمح بإلغاء الحكم العسكري. ورفض جهاز المخابرات الإسرائيلي "الشاباك" إلغاء الحكم العسكري بادعاء انه بإمكانه المحافظة على "الأمن الصغير" من خلال متابعة الناس ومراقبة حركتهم، لكنه لن يستطيع السيطرة على "الأمن الكبير" النابع من تطورات اقليمية وارتفاع أسهم عبد الناصر بشكل دراماتيكي.
لقد نشرت مؤخرًا وثائق حكومية اسرائيلية عن تلك الفترة، وفيها تطرق الى الموقف الإسرائيلي حيال عبد الناصر وتأثيره على فلسطينيي 48. ففي عام 1963، قرأ رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، دافيد بن غوريون، في جلسة الحكومة مقاطع من دفاتر طلاب عرب يعبرون فيها عن حبّهم وتأييدهم لعبد الناصر، وقال بأن هذا مؤشّر قوي على تنامي المشاعر القومية الخطيرة عند العرب في اسرائيل. وكان بن غوريون يعتبر جمال عبد الناصر "أخطر اعداء اسرائيل" وكان وراء مبادرات كثيرة ضد جمال عبد الناصر أشهرها الحرب الثلاثية على مصر.
وأورد الصحفي وديع عواودة (القدس العربي) شهادات من بلده كفركنا عن عبد الناصر، حيث أكد له الحاج أحمد عباس (83 عاما): "كنا نستمع خلسة لخطابات عبد الناصر لدى من بحوزته مذياع فتكبر محبتنا له كل مرة خاصة أيام تصدي المصريين للعدوان الثلاثي وإنجاز السد العالي ونجوميته في قيادة كتلة عدم الانحياز وهذا غفر له عندنا نكسة 1967 خاصة أنه سارع لتقديم استقالته بعد الهزيمة". أما الحاج رضوان سعيد (أبو يوسف،93 عاماً) أحد ناشطي حركة الأرض، فقال: "لقلة أجهزة الراديو كنا نتجمع رجالاً ونساءً لدى من لديه مذياع لسماع أبو خالد، فيغدو منزل المضيف مكتظاً فنعود لبيوتنا ونحن نكاد نطير بلا أجنحة".
ويؤكد المؤرخ بروفيسور مصطفى كبها أن الناصرية "أثرّت لأبعد الحدود في تشكل الوعي القومي لفلسطينيي الداخل بعد تحول هؤلاء لأيتام على طاولة اللئام عقب 1948، وأحيا فيهم الشعور بالكرامة بل شكل دور الأب بالنسبة لهم وعبر عن طموحاتهم ودافع عن قضيتهم رغم خيبة النكسة.. الشوارع في القرى والمدن العربية كانت تفرغ كأنها تحت حظر التجوال في الساعة التي كانت الإذاعات تنقل خطاب الزعيم عبد الناصر، حيث يجتمع الناس في المقاهي والبيوت لمهمة واحدة وحيدة هي سماع خطاب أبي خالد وتلقف كل كلمة منه.. عبد الناصر وبسبب شعبيته أثّر حتى في الكنيست الإسرائيلي: في تلك الأيام دأب فلسطينيو 48 التصويت لصالح الحزب الشيوعي الإسرائيلي كنوع من الاحتجاج وكونه الحزب الوحيد القريب من قضاياهم، إلا أن الحزب المذكور انحسر تمثيله من 5 مقاعد لثلاثة عام 1959 بعد اختلاف ناصر مع الاتحاد السوفييتي عقب ثورة 14 يوليو/ تموز في العراق وإلقائه خطاباً عشية الانتخابات يدعو فيها المواطنين العرب لعدم التصويت للحزب الشيوعي."
لقد وصل الخطاب القومي التحرري إلى فلسطينيي 48، من خلال شخصية جمال عبد الناصر الكاريزمية والملهبة للمشاعر، عبر موجات الراديو والتلفزيون، لتثير في الناس الأمل من جديد بعد صدمة النكبة، التي حوّلتهم إلى اقلية بعد أن كانوا اكثرية في بلدهم. لقد ساهمت الناصرية ، أكثر من أي عامل آخر، في صقل الوعي القومي وبعثه من جديد بعد تدمير المدينة الفلسطينية وتحويل النخب السياسية والاجتماعية الى لاجئين، وبقاء من تبقى في الوطن كمجموعات متناثرة ومشتتة خائفة على مصيرها بعد ما شهدته في النكبة وما بعدها. وكان للناصرية دورًا حاسمًا في عودة الوعي الوطني والقومي وفي مجريات السياسة في الداخل الفلسطيني في سنوات الخمسين والستين من القرن العشرين.
حركة الأرض
تأسست حركة الأرض رسميًا عام 1959، بعد انشقاق حصل بين القوميين والشيوعيين، الذين عملوا معًا في صفوف الجبهة الشعبية، التي تأسست عام 1957. وكان سبب الانشقاق هو التوتر بين القوميين والشيوعيين بسبب خلافات عبد الناصر مع عبد الكريم قاسم ومعارضة الشيوعيين للوحدة وكذلك ازمة في علاقات مصر بالاتحاد السوفيتي.
وإذ ادّى صعود عبد الناصر وتنامي المشاعر القومية عند فلسطينيي 48 إلى ارتفاع في نسبة تصويتهم لقائمة الحزب الشيوعي من 16% عام 1951 إلى 35% عام 1955، فإن صدامه مع الشيوعيين في العالم العربي ادى الى انهيار التأييد لهم في انتخابات 1959 إلى نسبة 11% فقط، وانخفض كذلك تمثيل الشيوعيين في بلدية الناصرة من ستة الى ثلاثة اعضاء في المجلس البلدي. وهذا دليل واضح على مدى تأثير جمال عبد الناصر على فلسطينيي 48 خلال تلك الفترة، التي كان فيها الحزب الشيوعي هو الحزب غير الصهيوني الوحيد على الساحة. وبمنظور تاريخي فإن تأثير عبد الناصر والناصرية والتيار القومي عمومًا في فترة الخمسينيات والستينيات كان هو التأثير الطاغي على وعي ووجدان ومشاعر فلسطينيي الداخل، فقد منحهم شحنة كبيرة من الإحساس بالعزّة والكرامة في وجه الاستعمار الداخلي الإسرائيلي، وما من شك أن هذا التأثير كان اكبر بكثير من تأثير الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي كان له اثر مهم في بعض البلدات وفي بعض الأوساط، لكن التأثير الناصري كان في كل بلد وبين كل الأجيال والفئات الاجتماعية بلا استثناء.
كان لموقف الشيوعيين في العراق وسورية ومصر والاردن ولبنان المعارض لعبد الناصر ولمشروع الوحدة مع سوريا، أثر سياسي كبير على فلسطينيي 48، حيث حصل تراجع كبير في دعم الحزب الشيوعي وخرج القوميون من الجبهة الشعبية وقاموا بتأسيس حركة الأرض، التي جاءت بتأثير ناصري قوي، كما جاء على لسان واحد من اهم قياداتها ومؤسسيها، منصور كردوش: "إن الحركة الناصرية اثرت فينا كثيرًا، واعطتنا دافعًا كبيرًا للعمل، خصوصًا أن جمال عبد الناصر في ذلك الوقت كان يعبر عن كل امانينا، وآراؤه مقبولة من قبل العرب في اسرائيل. فالعرب تجاوبوا مع آرائه القومية. وقد كنا نعبر عن موقف الجماهير من خلال تماثلنا مع آراء عبد الناصر.. في أحد اعداد صحيفة الأرض وضعنا في الصفحة الأولى صورة عبد الناصر وكتبنا "ناصر العرب في يوم النصر"، وكانت هذه الصورة سببًا في توزيع 1000 نسخة بسرعة خيالية."
يستدل من هذا الكلام أن حركة الأرض استندت في عملها الى الشعبية الطاغية لجمال عبد الناصر ا وإلى تأييد الناس لها بسبب تبنيها للناصرية. وإذ كانت حركة الأرض صغيرة الحجم نسبيًا، ألا نها نالت شعبية واسعة وكان لها حضور بارز في صفوف الطلاب العرب في الجامعة العبرية، حيث تأسست عام 1959 أول لجنة طلاب عرب بتأثير مناخ النهوض القومي، وكان التيار القومي هو تيار الاغلبية بين الطلاب العرب، وكان الفضل في ذلك الى حضور الخطاب الناصري، الذي تقبّله الطلاب الطامحين الى هوية قومية واضحة غير مرتبكة.
اتهمت السلطات الاسرائيلية حركة الارض بأنها حركة ناصرية معادية للدولة وتقوم بتحريض المواطنين العرب وقامت بملاحقتها وملاحقة قياداتها من خلال تقييد التنقل والحركة والإقامة الجبرية والنفي والاعتقال إلى ان جرى اخراجها عن القانون نهائيًا عام 1965، ولكن قياداتها بقيت ناشطة في اطر اهلية وسياسية اخرى، واندمج بعضها في الحركة التقدمية التي قامت عام 1984، وفي حزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي قام عام 1995.
يكمن المعنى السياسي للخطوة الإسرائيلية، التي اخرجت حركة الأرض عن القانون بأنها منعت عمليًا تأطير وتوجيه الدعم الكبير الذي لقيته افكار وآراء وتوجهات الرئيس جمال عبد الناصر، في حركة وحراك سياسيين مما اجبر الكثيرين الى دعم الحزب الشيوعي الإسرائيلي بسبب انعدام البديل القومي. وبعد انقطاع دام سنوات طويلة، تأسست حركة ابناء البلد عما 1970، التي وضعت مركز الثقل على الوطنية الفلسطينية وكذلك كانت الحركة التقدمية التي اسست عام 1984، وحين قام التجمع الوطني الديمقراطي عام 1995، أعاد في فكره وسياساته التوازن اللازم بين وطنية فلسطينية وقومية عربية، من خلال مبدأ "عمل وطني بأفق قومي".
وفاة الرئيس
اذكر جيّدًا ذلك اليوم، حيث كانت الصدمة فظيعة، وكان الشعور ان بيوت البلد بيتًا بيتًا حلّت بها مصيبة وفاة عزيز. بدأ اصدقاء الوالد بالقدوم وجلسوا بهدوء وحزن وسكينة، اخذت مكاني بجوارهم علّني اسمع شيئًا مما يقولون. كان صمتهم رهيبًا، ومن حين لآخر تمتم أحدهم كلمات مثل "لا اصدّق"، "ما قيمة العرب بعده"، "خلّي الخون يفرحوا"، "لا أريد أن اسمع الأخبار بعد اليوم"...كانت الاجواء أصعب من يوم "خطاب التنحي"، حينها كان هناك امل ان يتغيّر القرار.
في ساحة القرية تجمهر الشباب حائرين ما العمل. وكان القرار ان تكون مسيرة وجنازة رمزية مع صلاة الغائب. وكانت مسيرة جبّارة شارك فيها كل الناس شيبًا وشبابًا، رجالًا ونساءً، زحفوا الى المدارس واخرجوا الطلاب منها هاتفين "لا دراسة ولا تدريس الّا بدفن الرئيس"، وانضم الطلاب الى المسيرة واتجهت نحو بيت الأمام وطلب منه الشباب ان ينضم الى المسيرة لكنه كان خائفًا من عقاب السلطات فاغلق بيته على نفسه، فقام الشباب بالقفز فوق السور وخلعوا الباب واجبروه على الخروج حيث أقام صلاة الغائب، وتحمّس والقى كلمة رثاء لم يتوقعها منه أحد.
المشاركة الشعبية في مسيرات الحداد على وفاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في قرى ومدن الداخل الفلسطيني، لم يكن لها مثيل لا قبلها ولا بعدها. لم يحدث ان كانت مشاركة شعبية بهذه النسبة وبهذا الحجم، حيث عمّت المسيرات كل البلدات بلا استثناء وشارك فيها من لم يشارك في أي مسيرة من قبل او من بعد. ويصف الاستاذ فتحي فوراني في كتابه "جداريات نصراوية: شرفات على الزمن الجميل" ما حدث في الناصرة يوم وفاة جمال عبد الناصر: "يقع الخبر وقوع الصاعقة.. تمتد نيران تسونامية إلى الصفوف.. فينهض الطلاب منذهلين وغير مصدقين.. يتركون مقاعدهم على عَجل ويخرجون إلى فضاء مجنون.. فلا يعرفون ماذا يفعلون وإلى أين يتّجهون! يخرجون من الصفوف ويتدافعون ويتدفّقون نهرًا بشريًّا حائرًا.. ولا يصدّقون الخبر! يصبّون في ساحة المدرسة.. فيتبعهم المعلمون والمربّون والموظفون.. وبشكل عفوي.. ينهض البحر ويبدأ بالزحف.. ويشقّ طريقه ليبتلع الشارع الرئيسي على مهله.. ميممًا وجهه شطر عين العذراء.. وعلى ضفاف الشارع اليتيم.. يغلق العباد حوانيتهم ومحلاتهم التجارية.. وينضمّون إلى هدير البحر وأمواجه المتلاطمة.. ومع كل خطوة.. يزداد البحر اتساعًا.. ليصبح محيطًا بلا شواطئ! ويصبّ العباد في ساحة رحبة تجلس عليها تلّة مرتفعة أمام كنيسة البشارة للروم الأرثوذكس. ويخيّم الحزن العميق على المحيط البشري. الوجوه واجمة.. والعيون "عيون" جارية.. وبعضها يتدفق دموعًا حمراء حرّى. في الصدور براكين تتململ. وفي الحلوق ألف غصّة وغصّة. وعلى التلة الصغيرة المحاذية لمدرسة "أبو جميل".. وعلى مقربة من مقهى جرجورة.. يعتلي الكاهن الوطني "أبونا" سمعان نصار شامخًا.. وخاطبًا في المحيط البشري مترامي الأطراف.. المحيط بكامل جهوزيته قلبًا وعقلًا ووجدانًا.. وآذانًا مُصغية.. لسماع خطبة الكاهن النصراوي. وينطلق صوت بلال الحبشي.. مؤذن الرسول.. من حنجرة الكاهن الوطني.. الأب سمعان نصار. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر! يعيدها مثنى وثلاثَ ورُباع! الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر! تتدفق الدماء الساخنة في عروق البحر.. ويقفّ شعر البدن.. وتتفتح الشرفات لتطلّ على مشهد لم تشهد المدينة له مثيلًا! يقف الرجل على رأس التلة.. ويروح يلقي خطبة وطنية تهزّ المشاعر وتكهرب الوجدان.. يعدّد فيها مآثر العملاق الأسمر.. ويصور آثار الصاعقة التي زعزعت نفوس العباد وزلزلت المشاعر.."
بعد وفاة جمال عبد الناصر، عقدت الحكومة الإسرائيلية جلسات خاصة لبحث تداعيات الحدث على اسرائيل، واستمعت فيها الى تقارير من وزير الشرطة العراقي الأصل، شلومو هليل، تحدث فيها عن الاوضاع في القدس الشرقية وفي البلدات العربية في الداخل الفلسطيني، وادعى بأن المسيرة في الناصرة تحولت الى أعمال شغب. وقالت رئيسة الوزراء الإسرائيلية، غولدا مئير، خلال الاجتماعات بأنها لا تسمح لأي مسؤول اسرائيلي، حتى رئيس الدولة بإصدار بيان حول الوفاة. ورفضت الحكومة الإسرائيلية اقتراحًا بالسماح لقيادات من القدس المحتلة ومن الداخل الفلسطيني بالمشاركة في جنازة الرئيس جمال عبد الناصر. ومع ذلك، صرّح رئيس دولة اسرائيل زلمان شازار بأنه يتفهم مسيرات الحداد ومشاعر المواطنين العرب تجاه وفاة عبد الناصر، وتعرّض في اعقاب ذلك لهجوم عنيف من القيادات السياسية والإعلام الإسرائيلي.
من يقرأ بروتوكولات الحكومة الإسرائيلية والوثائق، التي يجري نشرها حديثًا، يعرف كم كان عبد الناصر يغيظ اسرائيل ويسبب لها الأرق واحيانًا الفزع، ويعرف كم كان موشي ديان مثلًا متفائلًا بعد وفاة الرئيس. كل ذلك لأن قضية فلسطين كانت بالنسبة لعبد الناصر قضية مصر والامة العربية، وقد ساهم بجعلها كذلك في قلوب العرب عمومًا والمصريين خصوصًا.
لقد شعرت مثل اهل بلدي يوم وفاة الرئيس جمال عبد الناصر بأن العالم ينهار أمامي وأن فلسطين اصبحت يتيمة. لكنّي اليوم وبمنظار تاريخي، ورغم كل الصعاب، لا زلت أعوّل على أن روح الناصرية وأحلامها الكبرى لا زالت تحوم في مصر الكنانة، التي ستنهض وتنهض معها الأمّة، لتحقق املنا جميعًا في الحرية والعدالة وسعادة الانسان وكرامته.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net