أسعد غانم في مقاله:
أعرف إن الموت هو زنجبيل الحياة، يعطي قوة لفكرة التجدد والنمو، وإن كان على حسابنا نحن، شخصيا أو على حساب مَن نحب. لكنني لست قادرا على تحمله.
يعزينا في فقدانك إلا ما تركتِهِ من إرث: نشاط غير محدود، عطاء، كتابات، بنات، أنسباء، زوج وعائلة كريمة. ولا يصبرنا سوى ما اتفق عليه، أنتم السابقون ونحن اللاحقون وإننا على موعد.
اختلطت أموري يوم السبت صباحًا، كنت أعلم من إحدى معارفنا المشتركات "الحيفاويات" خلال زيارة عزاء بوفاة مباغته لوالدها، أنكِ ترقدين في المشفى في حالة غيبوبة، كنت "أمنّي النفس" بأن ذلك فعل مؤقت لاسترداد القوة والنهوض، لكن زوجتي فاجأتني قبل الظهر قليلا: "د. ميري توتري توفيت". توقفت عن النظر في نص أعمل عليه، وقلت "من قال هذا؟"، "صديقنا د. ثابت أبو راس على صفحته "عُدت بسرعة الى "الفيس بوك" الذي أراقبه متقطعا وصدمت من مساحة انتشار الخبر، "د. ميري توتري في ذمة الله".
أعرف إن الموت هو "زنجبيل الحياة" يعطي قوة لفكرة التجدد والنمو، وإن كان على حسابنا نحن، شخصيا أو على حساب مَن نحب. لكنني لست قادرا على تحمله... لا أفهم لماذا ينقض على أبناء جيلنا في حياتنا، ألا يستطيع ان يتمهل قبلنا ويقطفهم بعدنا؟ أم إن هذا سوف يكون على حسابنا – يدركنا مبكرا، لـ"يتيح الفرصة" لنفسه للانقضاض على غيرنا. أصبح الموت يقتلني ببطء، فقد جربته في أقرب الناس لي: اخي، حماتي، عمي، خالي، عمتي، جدتي، أبي، حماي، جاري وجارتي وبعض معارفي، صديقنا المشترك "طه أشقر". ليصل الآن إلى أبناء جيلي. أولئك الذين عملت معهم، فكرت معهم وتناقشت وصُغت معهم نصوصًا مزقنا المسوّدات. ثمّ نشرنا ما استطعنا إليه سبيلا.
عرفتك ميري منذ عقدين ونيف. انسانة وشخصية مُرهفة، ناعمة، مباشرة، مثقفة من غير أمراض "الأكاديميين" محرّرة من التكلّف والتكليف، تشارك شعبها همومه وتُعطي من وقتها وعلى حساب عائلتها ما تستطيع. تشارك النقاش، لا تفرض رأيها، ولا تدّعي بأنها أصوب من غيرها. تقول، تناقش، تضيف، تشطب... باختصار "إنسانه طبيعية" شغلتها هموم شعبها، غير مشغولة بـ"أنا متضخّم"، بل بالحياة كما خبرتها وعرفتها، ومن غير تكليف.
شاركت مع لفيف من النشطاء الملتزمين في قضايا شعبنا في صياغة وثيقة "التصور المستقبلي"، حتى نضج وصدر كأهم انتاج فكري جماعي لشعبنا، هنا في الداخل منذ 1948، وفي النقاشات واللقاءات التي تبعت ذلك. لا أحد يستطيع أن يأخذ هذا منك. أعرف بأنك راجعتني، مع غيري، أكثر من مرة "لماذا لا يتم العمل على إخراج ما صغناه الى حيّز التنفيذ؟". اختلفت معك، فالإعلان ينجز عند نشره، وهو كذلك. ومهمة التنفيذ، هي مهمة السياسة، التي اتفقنا، مع بعض زملائنا على تسميتها "سياسة ألـ"V"، تحكي كثيرا، تخطب، تظهر في التلفزيون، تتحول إلى متعهد مظاهرات واجتماعات. كل شيء إلا السياسة، التي من المفرض أن تعطي الاجابات، لا أن تحلّل وتناقش وتتظاهر فقط. أعرف أن ذلك آلمك كثيرا وأنك حرّضت في كل مناسبة ممكنة على تغيير أنماط العمل السياسي لدينا. حتى آخر عمرك، لم تنجحي تماما في هذا، لكنك تركت لنا شيئا نعمله. كوني واثقة بزملائك، بنا. لن نترك هذا الباب، لن نسلم بسياسة الـ"V". سوف نبقى هنا ننبّه، نعمل، نحرض، نكتب. يستحق شعبنا أكثر. يستحق سياسة تصيغ الإجابات وتحاول تنفيذ ما أمكن.
حتى لا ينفلت بعض السياسيين. نعم سمعتك، وفي أكثر من مناسبة، تحرضين نساء مجتمعنا على عدم التسليم بظواهر وعادات بالية، بعدم قبول استثنائهنّ من مؤسساتنا، وعلى رأسها السلطات المحلية التي تشكل مسرحا وملعبا للرجال فقط. مَن يستحق منهم، وعلى الغالب، لمن لا يستحق. قلتِ دائما بأن هذا "من فعلنا نحن"، من أخطائنا نحن ضد مجتمعنا، وعلينا تقع، بالأساس، مسئولية تصويب ذلك. وعلى هذا تقاس قضايا عدة شغلتك، حتى استرد الله الأمانة. كوني على ثقة بأن ما تركتِ من مواقف وقضايا شغلتكِ، سوف تبقى على جدول أعمالنا، نحن زملاءك وطلابك من نساء ورجال، لأن منطق المعطاءين والصادقين، الأوفياء لشعبهم مثلك، هو ما يشغلنا جميعا.
لا يعزينا في فقدانك إلا ما تركتِهِ من إرث: نشاط غير محدود، عطاء، كتابات، بنات، أنسباء، زوج وعائلة كريمة. ولا يصبرنا سوى ما اتفق عليه، "أنتم السابقون ونحن اللاحقون" وإننا على موعد. يُخفف من اسانا التفكير بأنه عند وصولنا سوف تكونين هناك – مع اخرين- وبرقّة، وبصدق، وبهمة ونشاط في استقبال أبناء شعبك، تقولين وبابتسامتك المعهودة مرسومة على وجهك "ألم أقل لكم بأن شعبنا سوف ينتصر، وإنه اقوى من أعدائه الخارجيين وأولئك من الداخل، وإن الفرج دائما على الأبواب". رحمك الله، والى لقاء.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net