سليم سلامة في مقاله:
ما الذي اعتمدناه، منذ تشريع "قانون القومية" قبل أسبوعين، وما الذي سنعتمده خلال الأسابيع والأشهر القادمة، سوى تكرار بائس ومأساوي لجميع الأدوات والوسائل والطرق "النضالية"
لا شك في أن العمل السياسي والجماهيري، تنظيمه، ترشيده وقيادته، بما يعني تثقيف الناس وتوعيتها، تنظيم نشاطها الجمعي وقيادته، خدمة قضاياها ومصالحها وحماية مستقبلها
هي الضارّة التي ربما تكون نافعة، إنْ حزمنا أمرنا (الجماعي) على جعلها "فرصتنا" وإن أحسنّا اهتبالها
رُبّ ضارة نافعة. هذا ما يمكن أن نتمناه الآن، على الأقل، من هذه "القيامة" التي أقامها تشريع "قانون أساس: إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي"، أو "قانون القومية" باسمه "الشعبي". "رُبّ" هنا هي للتمنّي، ولذا فهي تفيد الاحتمال. الاحتمال فقط. لا شيء مضمون بالطبع، لكنه مجرد تمنٍّ، مجرد احتمال. ولو سأل كل فرد منا نفسه عن نسبة الأمل في تحقق هذا الاحتمال، فسيجد - بالبناء على تجارب متكررة وممتدة على عقود من الزمن، أنها لا تصل الخمسين بالمئة حتى، كما هي حال الاحتمالات عادة.
هذه ليست "سلبية"، ولا نظرة "سوداوية تشاؤمية"، كما قد يظن البعض أو كما قد ينافح/ يهاجم بعض آخر. هذا ليس كلام تيئيس وإحباط، كما قد يستسهل البعض الادعاء لتبخيس الرأي، بل وتجريمه ربما، بل قد يكون الاستنتاج الحتمي الوحيد المتاح، منطقيا وواقعيا، على ضوء استعراض مسيرة سبعين عاما من الأداء السياسي و"النضال" السياسي بين المواطنين العرب في هذه البلاد (أو، سمّهم ما شئت: "الأقلية العربية"؛ "الجماهير العربية"؛ "عرب الداخل"؛ "عرب الـ 48" أو سواها!)، ومن ضمنها - خصوصا - السنوات السبع الأخيرة منذ طرح مشروع هذا القانون للمرة الأولى وحتى إقراره نهائيا قبل أسبوعين.
قد يكون من الخبل إعادة اقتباس مقولة آينشتاين الفذّة "كل ما دق الكوز بالجرّة". لكن، لا بأس من تكرارها أحيانا، ومنها الآن، لأنّ في التكرار ما قد يُعلِّم!! ومقولة آينشتاين هذه، في صيغة مخففة ومُلطَّفة، تجزم بأنّ تغيير النتائج يستدعي، بالضرورة، تغيير الأدوات والوسائل والطرق! فهل نتوقع نتائج مغايرة الآن، في معارضة "قانون القومية" ومقاومته، تختلف عمّا "حققناه" حتى الآن من نتائج و"إنجازات" وصلت بنا إلى سن "قانون القومية"، طالما نحن "نجترّ" الأدوات والوسائل والطرق ذاتها؟
ما الذي اعتمدناه، منذ تشريع "قانون القومية" قبل أسبوعين، وما الذي سنعتمده خلال الأسابيع والأشهر القادمة، سوى تكرار بائس ومأساوي لجميع الأدوات والوسائل والطرق "النضالية"، السياسية والقانونية والبرلمانية، نفسها التي لا نزال نتمسك بها منذ سبعين عاما، على الأقل؟ ... مُطالَبات، مظاهرات، إضرابات، مسيرات، تصريحات، خطابات، بيانات، استجوابات، التماسات، ندوات، مؤتمرات، لقاءات، اجتماعات و.... غيرها من السلة نفسها؟؟ أليس هذه، كلها أو بعضها، ما قررته "لجنة المتابعة العليا" و"القائمة المشتركة" في اجتماعهما الأخيرين؟
لا أقترح التخلي عن هذه الوسائل كلها، ولا حتى عن بعضها، دفعة واحدة. بل أقترح رفدها وتعزيزها بوسائل وإجراءات أخرى لم يشملها "صندوق أدواتنا" النضالي في مواجهة هذه السلطة وسياساتها الرسمية تجاهنا حتى الآن. لماذا هذا "الخوف" من اللجوء إلى وسائل أخرى، غير مُجرَّبة، كلها بدون استثناء في نطاق الفعل السياسي (لا العسكري!!)، القانوني والمشروع، محليا ودوليا؟
لماذا "الخوف" من الاستقالة من الكنيست ومقاطعة انتخاباتها؟ لماذا "الخوف" من إعلان العصيان المدني العام؟ لماذا "الخوف" من تدويل قضيتنا، تدويلا حقيقيا وشاملا؟ لماذا "الخوف" من إجراء انتخابات عامة لـ"لجنة المتابعة العليا"، أو لتكن "المجلس التمثيلي العام"؟
لا شيء من الحجج والادعاءات المستخدَمة في وجه هذه المقترحات، أو غيرها مما لم يوضع موضع البحث الجدي وعلى بساط التنفيذ حتى الآن، قادر على الصمود في ضوء تجربة الأعوام السبعين الماضية ونتائجها. لو لم تكن هذه التجربة هي التي أوصلتنا إلى هذه النقطة، لما قلنا هذا. ألسنا قادرين على إعادة التفكير والتعلّم والاستفادة منها؟ أم نراها "نتائج طيبة" تشرعن لنا الاستمرار في نفس الطريق الذي سلكناه حتى الآن؟
"الخوف" من بحث هذه الأفكار، مجرد بحثها، ومحاولة تنفيذها هو خوف الأحزاب السياسية الفاعلة بيننا، بالأساس. هو خوف ـ مشروع من وجهة نظرها ومصالحها الحزبية ـ من فقدان سيطرتها ومواقعها، بل ربما مجرد بقائها ووجودها (أو أكثرها، على الأقل) في ضوء الأزمة العميقة والشاملة التي تتخبط بها منذ سنوات، فكريا وسياسيا وقياديا و... اقتصاديا. لكنه ليس مشروعا، بأية حال، من وجهة نظر واقع الحال الذي نعيشه، واقع الناس وأوضاعها، مستقبلها ومصالحها. هذه هي الحقيقة المؤسية التي يخشى كثيرون من وضعها "على الطاولة" والتحديق بها.
لا شك في أن العمل السياسي والجماهيري، تنظيمه، ترشيده وقيادته، بما يعني تثقيف الناس وتوعيتها، تنظيم نشاطها الجمعي وقيادته، خدمة قضاياها ومصالحها وحماية مستقبلها، يحتاج إلى أحزاب سياسية، أحزاب وطنية تضع قضايا الناس وهمومها ومصالحها في رأس سلم أولوياتها، قبل مصالحها هي ومصالح تنظيماتها وقياداتها. لكنّ الأحزاب المأزومة، المترهلة فكريا وسياسيا وتنظيميا وقياديا ـ كما هي أحزابنا اليوم ـ ليست قادرة على القيام بهذه المهمات الجسمية وتأدية هذا الدور المصيري المنوط بها والمأمول منها.
ولئن كنا قد وصلنا إلى هنا، وهو ليس آخر المطاف في علاقتنا كأقلية أصلانية مع هذه الدولة، على الأرجح، فليس إلا لأننا استمرأنا الأزمة واسترخينا إلى إدارتها بالأساليب ذاتها وبالأدوات نفسها. فماذا نحن فاعلون؟
نحتاج، بداية واشتراطا، إلى جهد أساسي وكبير ينصبّ في إعادة تعريف وتحديد علاقتنا بالدولة، بكل حيثياتها وتفاصيلها ـ هل نحن "مواطنون"، حقا وبكل ما يحتويه مفهوم المواطَنة من مضامين واستحقاقات؟ هل تعاملت معنا الدولة باعتبارنا "مواطنين" حقيقيين، في يوم من أيامها، سوى في هوامش الهوامش؟ ثم، من هذا التعريف، الجوهري والشامل، تُشتق الخطوات العملية والإجراءات التنفيذية التي لا بد أن تكون، بالضرورة، مغايرة لما استمرأناه حتى الآن.
هذه تحديات طرحتها الدولة علينا، مرارا وتكرارا، قبل "قانون القومية" بكثير، بل منذ أيامها الأولى، لكننا تعامينا عنها وتصاغرنا عن مواجهتها، أو اخترنا عدم مواجهتها، بقرار "عقلاني" وبوعي تام. أما الآن، فقد أصبح الاستمرار في هذا النهج "النعاميّ" ضرباً من الاستسلام الجماعي النهائي، ضرباً من التسليم الجماعي بواقع سيفتك بأجيالنا القادمة ومستقبلها في هذه الديار.
هي الضارّة التي ربما تكون نافعة، إنْ حزمنا أمرنا (الجماعي) على جعلها "فرصتنا" وإن أحسنّا اهتبالها، ولو بتأخير كبير. فهل نحن قادرون على مواجهة هذا التحدي، الآن؟ وهل سنكون؟ ... هذا هو السؤال الذي ينتصب أمامنا ويطالبنا بالإجابة، أفرادا وجماعة.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net