منذ أن كانت صغيرة، وهي في سن العاشرة، تذكر أنَّ هنالك شيئًا ينقصها، شيئًاٌ يمسُّ إحساسها ويجعلها تشعر أنّها غريبة عن العالم المحيط بها، كان ذلك حُرقًا قد هشّم شكلها منذ أن كانت في سن الرابعة، وحيدةً ومنذ حداثة سنّها، الجميع ينفر منها، شعورٌ يعصر القلب بالحزن والألم، فالمنديل الأزرق ترك المسرح وغاب عن تتويج رأسها ، وهي التي كانت تتمتع بجمال قوام ونضارة بشرة ودماثة أخلاق
تذكر عندما كانت في المدرسة، كم كانت تحجب وتعزل نفسها عن الجميع خوفًا من أن يروا هذا الحرق الذي بات في نظرها عيبًا، ونظرات الجميع المصوبِّة نحوها الملأى بتساؤلاتٍ وتعجب، فلماذا هذا الغموض الذي يكتنفها، ومنهم من ظنَّ أنَّ الكبرياء جعلها تشعر بأنَّها أفضل من غيرها، لذلك تبقى لوحدها، ولكن هي بعيدةٌ كلَّ البعد عن الغرور، ومن لا يعرف حالها حتمًا سيظلمها، سينعتها بأقبح النعوت والصفات، وهي، ومع كلِّ التفوق الذي تحرزه على كافة الأصعدة، فالدموع السخينة ما فتئت تنهمر بغزارة وتُلوّن وجنتيها بالأسى، بالألم، وكبرت نداء، والألم هو عينه، لا بل كبر مع السنوات، أفلا يستيقظ في قلبها هذا الحِّس المرهف الذي يجعلها تذوق طعم النسيان وحلاوة الأيام
وهي في ريعان شبابها، شبابها الذي بدلاً من أن يمنحها رونقًا وبهاءً، ها إنّه يجرّده من نداء الأنثى، من نداء المستقبل، أيا تُرى سيكون مثل الماضي، أم سيزيّن أيام عمرها، وهي ترى الفتيات من عمرها تتلوّن أيامهّن بالبهاء والجمال، وهي وهذا الحرق الذي رسم مساحةً كبيرةً على مؤخرة وجهها، وجعلها تمقت نفسها، وأحيانًا تتمنّى لو لم تكن
والأمل، في إقبالٍ إليها دومًا، وهي، رغم حالها التعيس، إلاّ أنَّ إيمانها ما برحَ أن فترْ أو تضعضع وأملها بالحياة والسعادة لا يغيب عنها، وهي ما عليها سوى الصبر والانتظار
شعرت أنَّ الجميع وإن كانوا يتحدثون إليها فكلُّ ذلك تملقًا، لا لأنهم يحبون ذلك، بل أنّ الأمرٌ نابعٌ من شفقة على حالها، الأمر الذي يثير غضبها، ولكنّه غضبٌ مخلّدٌ في حنايا وجدانها، لم تعرف ومنذ صغرها إلاّ أن تعامل الآخرين بكلِّ ودٍ واحترامٍ ومحبة
نداء الآن في السنة الثانية من دراستها الجامعية، فقد ولجت فرع الأبحاث الاجتماعية، فهي أحبّت أن تساهم في هذا المجال، وتُقدم ولو ما مرّت به في تجربتها القاسية، إيمانًا منها أنَّ كل إنسان لديه شيءٌ يؤلمه فإن اخبر الآخر عنه، فسيزول هذا العبء، أحبت أن تكون هي المتوجَّه إليه، لا لأنها كانت تبتغي أن تسمع القصص وتخلّدها في ذاكرتها، بل لأنها عانت من مشكلة ما، فأرادت أن تعرف أيضًا عن الآخر
بقي لديها فصلٌ واحدٌ بعده تنال الشهادة الجامعية وتعمل في الموضوع الذي تحب، من عمرها مرَّ خمسٌة وعشرون عالمًا، وهي، والمنديل الأزرق الماكث أبدًا على وجهها، والنظرات ذاتها ولكنّها الآن تنظر بعمقٍِ أكبر، بفضول إنسانٍ يريد أن يعرف ويسأل " ماذا بها "، لماذا كلُّ هذا الغموض؟
وفي حيرتها من أمرها، والغرابة التي تجتاح عيون البشر، ظلّت مزمعةً أن تزيل هذا المنديل الذي بقيت أثاره معلّمةً على عنقها، قررت أن تكسر كلَّ القيود، لعلَّ إله الأكوان يصنع معجزةً ويجعلها مثل باقي الفتيات، فتاةً تتمتع بالجمال وتكتسي بألوان الربيع الزاهية، وأن يدنو منها الشاب الذي حلمت به أن تقضي الدهر معه، شابٌ يحبّها لشخصها، يحبّها لهذا الحرق الساكن في محياها، سوف تنتظر، فبعد صبر وعناء كلِّ هذه السنوات، لن تتذمّر بعد أن تنتظر قليلاً، إيمانها بالله كبير، أنْ يومًا سيكون لها ما تحب وما تريد، فهي متفانية في تقديم الخدمة، ذنبها أنّها خُلقت وهذا الوشاح السرمديّ
عندما رآها إحسان لأول مرة، كان يعرف مسبقًا أنّها نداء العمري، الباحثة الاجتماعية وصاحبة مركز الأبحاث النفسي، اسمٌ لمع في الصحف والمجلات، اسمٌ لاقى استحسانًا لدى كلِّ من يطلّع على هذه الشابة، يتراود حينها إلى ذهنه إنسانة مليئة بالعطاء، إنسانة مثقفة، يعجز حتّى اللسان عن وصفها لمدى موهبتها في مجال علمها
وإحسان، كالباقين، أسلوب التوجه التي كانت تتبنّاه نداء لاقى استحسانًا منه، فما كانت تنشره في المجلة الأسبوعية كان يجتذب نظره لقراءته
ويومًا وإذ بمكتوبٍ يُوضع عند بيت نداء، فرأته، بعدها عرفت أنّهُ مُرسَلٌ من شخصٍ يُدعى إحسان، في الرسالة ثناءٌ ومديحٌ لها على المستوى الرفيع الذي تكتب فيه، في زاوية " صدى الروح "، لاقت الرسالة إعجابًا نداء، لكن بعد قراءتها للرسالة، أرادت أن تطويها، وإذ لفت نظرها أنَّ في نهاية الرسالة مكتوب " ومع ضعفنا فنحن نستطيع أن نكون، لا أن يكون المظهر هو الجوهر" أثارت هذه الجملة استغراب نداء، لماذا عساه يكتب جملةً كهذه، وما يدفعه إلى ذلك، أتُرى هل يعرف بحالها أم
تساؤلات تلتها تخمينات، فلم تر بُدًا من أن تنام علَّ الصباح يُنبئها بما خبأت لها هذه الجملة من وقعٍ
من أثر