مهند الصباح في مقاله:
في حالتنا الفلسطينية أصبح السلوك المُعَنّف يخضع لإطار وضوابط اجتماعيّة، ففي حالة القتل هناك سلوك وأعراف متبّعة، وفي حالة التشهير والمساس بالشرف إجراءات متبّعة
مشارب العنف عديدة لا حصر لها، أوّلها الاحتلال وما ينتج عنه من شحّ في المأكل والمسكن، ومع الحد من وسائل وأدوات المقاومة للمحتل تحوّل ممارسات العنف نحو الدّاخل
نحن نعيش في منطقة يملأها العنف، والقمع، والجهل، نفتقد لسياسات اجتماعيّة نهضويّة، ذات بُعد حضاري، وللأسف مجتمعنا يضع الآن لنظريّة الفراغ وملئ الفراغ
انتشرت في الآونة الأخيرة في مجتمعنا الفلسطيني ظاهرة العنف التي تهدد السلم الأهلي وتعرّض ثوابت المجتمع للزوال. حيث سقط منذ بداية هذا العام ما لا يقل عن 23 ضحيّة نتيجة استخدام العنف وآخرها ما حدث في مدينة يطّا. انتشار يستدعي التوّقف كثيرا أمامه، ودراسته بشكل علمي واجتماعي سلوكي كي نتمكّن من انقاذ ما يمكن انقاذه قبل الانهيار العظيم.
يعتقد ابن خلدون بأنّ العنف هو نزعة بشريّة أصيلة فيهم، يغذّيها الفكر القبلي وأواصر الدم بين القبائل، الأمر الذي يُجبر الفرد والجماعات على المناصرة المتبادلة في حالات الحرب والخلاف بغض النظر عن صحّة الطرّح، وهنا يستحضرني قول الشاعر الجاهلي دريد بن الصمّة " وهل أنا إلا وما أنا إلا من غزيّة إن غوت ... غويت، وإن ترشد غزيّة أرشد". كما يرى عالم الاجتماع الشهير لودفيج جمبلوفتش بأنّ الصراع هو متأصل في المجتمعات الإنسانيّة منذ النشأة يتوارثه الأفراد عبر الجينات، بينما يرى ماركس بأن الصراع يدور حول امتلاك وسائل الانتاج وحصر الثروة بيد طبقة دون الأخرى في المجتمع. وعلى عكسهم تماما يرى سمنسر عالم الانثروبولوجيا بأنّ العنف والصراع مردّة إلى تباين النهج السلوكي والثقافي بين الجماعات.
وفي حالتنا الفلسطينية أصبح السلوك المُعَنّف يخضع لإطار وضوابط اجتماعيّة، ففي حالة القتل هناك سلوك وأعراف متبّعة، وفي حالة التشهير والمساس بالشرف إجراءات متبّعة، وكذا الحال في الجُرح والخلافات البسيطة بين الأفراد والجماعات، وبالتالي تمّ تنميط السلوك، له محددات ومخرجات، شيء قريب من العلم، إلا أنّ العلم قائم على التجربة والبرهان واستخلاص النتائج التي يمكن دحضها في حال ثبت فشلها لاحقا، وهذا ما لا نجده في المخرجات المترتبة على السلوك العنفي. بل تزداد رقعة تعميم الجرم ليطال مجمل أفراد العائلة ويثقل كاهلها اجتماعيّا وماديّا ونفسيّا.
مشارب العنف عديدة لا حصر لها، أوّلها الاحتلال وما ينتج عنه من شحّ في المأكل والمسكن، ومع الحد من وسائل وأدوات المقاومة للمحتل تحوّل ممارسات العنف نحو الدّاخل – داخل المجتمع- بدلا من أن يكون نحو الخارج ونحو السبب الرئيسي الذي أدّى بالمجتمع إلى الحنك وانعدام أفق التطوّر الطبيعي أمامه كبقيّة شعوب العالم. وإذا ما عدّنا إلى سنوات الانتفاضة الأولى أثناء المقاومة الشعبيّة فإننا لن نجد في تلك المرحلة ما نراه الآن من مظاهر للجريمة، وكذا الحال – إلى حدّ ما- في انتفاضة الأقصى. تغييب القاسم المشترك وتحييد العدو المشترك وتراكم الاعباء وهموم الحياة دفع بالناس إلى الاحتراب والاقتتال.
ثانيّا: العنف في المجتمع الفلسطيني اضحى شبيه بتداول سلعة اقتصاديّة، ولكي يزداد الإقبال على هذه السلعة فلا بدّ من وجود حملة دعائية لترويجها واثبات جودتها على السلع الأخرى، وفي حالتنا فإنّ الأهازيج الشعبية والأغاني التراثية في جزء كبير منها تروّج لثقافة العنف وتعاضد القبيلة والعشيرة، خاصة في مناسبات الأفراح حين يتجمّع أفراد العائلة الواحدة فينشدون في فرحهم ما يعزز شعورهم المزعوم بالتفوّق على الآخرين، مما يُقوّي الدّافع نحو ممارسة السلوك المُعنّف لدى شباب تلك العائلة. ومنها مثلا " حِنّا .. حِنّا .. ضرب السيف يلبقلنا" ، " يا محلا ضرب الشباري في العدا والدّم جاري"، " حِنّا كبار البلد والشور إلنا"، وغيرها الكثير.
تماما كما قال الألماني جوزيف غوبلز وزير الداعيّة للنظام النّازي " أكذب، ثم أكذب حتّى يصدقك الناس" . أمّا في الأقوال المأثورة فحدّث ولا حرج، فمثلا تقول العجائز " فرّجي شرّك يوم، بترتاح على الدوم"، وأيضا مما يُقال في مساندة العنف " الشرّ سياج أهله".
ثالثا: نحن العرب قد جُلبنا على حبّ القبيلة، ومع تزايد النفوس البشريّة أصبحت كلّ عائلة بمثابة قبيلة قائمة بحدّ ذاتها، لها عاداتها، تقاليدها، وأحيانا كثيرة لها حرفتها و مهنتها المشتركة التي تميّزها عن العائلات الأخرى. مما جعل العائلة نظاما متكاملا، اقتصاديّا، ثقافيّا، وسلوكيّا. استذكر حديثا دار بيني وبين صديق لي ينحدر من إحدى العائلات الكبيرة من حيث العدد في مدينة الخليل، حديثا دار بيننا على خلفيّة قيام عائلته بسلسلة عمليات قتل متتاليّة فسألته: ألا تملّون؟ من أين لكم كلّ هذا المال الذي تدفعونه ديّة لأهل القتلى؟ فكان جوابه مفزعا " اتصدّق أنّ القتيل لا يكلفني أنا كفرد من العائلة سوى دينار واحد! ". وللعلم صديقي هذا يسكن مدينة القدس، مما يفُصح عن شيء لم يألفه علماء الاجتماع الذين قالوا بأنّ ثقافة المدن المفتوحة تختلف عن تلك الموجودة في المدن المغلقة أو في القرى. بل على العكس تماما ما زال الكثيرون يتمسّكون بحبّ القبيلة وملتزمون بكافّة التعهدات الطوعيّة تجاهها منكرين ذواتهم الاجتماعيّة المستقلّة القابلة للتطوّر ويضعونها ضمن إداء ميكانيكي اجتماعي قِبلي مجسّدين مقولة الكساندر دوما " الفرد للكل والكلّ للفرد" بطريقة سلبيّة للغاية.
رابعا: انهيار هيبة الدولة في مناطق السلطة الفلسطينيّة. حماية السلم الأهلي وصيانة النسيج الاجتماعي لا تعتمد فقط على سمو القيم التي يتمسك بها أفراد المجتمع، بل أيضا على قوّة حماية فعليّة تتخذ من القانون مصدرا مفوضا لفرض الحمايّة، لقد تحطّمت هذه القوّة التنفيذيّة على صخرة العرف والقضاء العشائري. فلا يُعقل مثلا رضوخ الدولة بأجهزتها الأمنية لعُرف أوجده أجدادنا منذ داحس والغبراء بلا مراجعة أو مفاضلة. لا بل أصبحت هذه القوّة الأمنيّة أداة تنفيذيّة بيد القضاء العشائري، فكيف تأمن القوى الأمنيّة خروج العائلات من مدينة يطّا إثر الحادث الأليم الأخير والمستنكر؟ وقبله ما حدث في بلدة العيزريّة- وهو حادث مستنكر أيضا، فالأصل في رجل الأمن حماية الأفراد وليس قتلهم-. فغابت السلطة التنفيذيّة القادرة على تطبيق القانون الرادع لأيّة ممارسات تمس السلم الأهلي وتمزٌق النسيج الاجتماعي.
نحن نعيش في منطقة يملأها العنف، والقمع، والجهل، نفتقد لسياسات اجتماعيّة نهضويّة، ذات بُعد حضاري، وللأسف مجتمعنا يضع الآن لنظريّة الفراغ وملئ الفراغ، فالفراغ موجود والفساد موجود، بيمنا الإصلاح غائب ومغيّب.
القدس 2018/09/10
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net