- الله يرضا عليك يا ابني شوي شوي!
- طيب يا حاج، أترى هذا الزر، هذا ان أردت أن تكتب تعليق، وبداخل التعليق يوجد أيضا إمكانية للرد، أنظر هذا هو زر الرد.
- ماشي ماشي!
- لكن انتبه، كل ضغطة اعجاب أو تعليق سيراها ويراه جميع أصدقاءك على الفيس-بوك، تجنّب الإعجاب بالفرافير والأفخاذ.
- لعنة الله على أعداءك يا جمال، أتظنني هكذا يا ابن الكلب بعد هذا العمر، خسارة التربية فيك أيها الواطي.
- لن اُتمَّ فتح الحساب لك في الفيس-بوك!
حدجته فابتسم وقال:
- الفيس-بوك جاهز، إذا احتجتني بأي شيء فأنا رهن يديك يا أبي العزيز.
هكذا كانت بدايتي مع موقع التواصل الاجتماعي الفيس-بوك، ثم بعدها بدأت أستقبل طلبات صداقة من أقارب وأصدقاء، وأرسلت أخرى لأصدقاء اقترحهم الفيس-بوك، رأيت زملائي وأصدقائي القدامى أيام التعليم في الجامعة ضمن المقترحين، كان بينهم صديق قديم لفت انتباهي، أنور سالم، أو قل البروفيسور أنور سالم، يا لتقلب الأيام، أنور بروفيسور الآن، دخلت إلى صفحته ورأيت كتاباته الجميلة وتواضعه في الرد على متابعيه وأصدقائه الافتراضيين، أرسلت له طلب صداقه وتحدّثنا قليلا وتبادلنا رسائل نصية بعدما استقبل طلبي كصديق، ما أروعه.
سعدت لتطبيق الفيس-بوك بهاتفي، يجمعك هذا التطبيق بأصدقاء قدامى، كذلك عالمه الافتراضي جميل حقا، إذا تجاهلت بعض المنشورات التافهة والسياسية بشكل عام. لكن جمال هذا العالم الافتراضي لا يُنسيك قبح الواقع الذي نحن فيه، كان كل شيء يسير على خير ما يرام، لم أقم بنشر أي منشور حتى الساعة، باستثناء صورتي الشخصية وصورة الغلاف، وهو ما ألحّ عليّ التطبيقُ أن أفعله مع إضافة بعض التفاصيل الشخصية، تجاهلت اقتراحات التطبيق واكتفيت بقراءة ومتابعة منشورات الأصدقاء الافتراضيين، وفي يوم تلقيت طلب صداقة من شخص أطلق على نفسه أسد الأُمَّة! تساءلت في نفسي من يكون هذا الشخص، فدخلت الى صفحته لأكتشف أن أسد الأمة ما هو إلا أسد ابن أخي، خاب ظني، أو قل أصاب ظني خيبته، أسد هو ابن أخي وهو شاب صغير كان في صف ابني جمال وقد أنهى الثانويّة العامة وذهب للعمل بمصنع قبل سنة، ولا يزال يعمل هناك، لكن ليس هذا المهم، المهم أن أسد هذا باختصار شديد هو مثال حيّ على شخص لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم، محترف جدال تافه وعقيم، ويغيظ جميع البشر وأشكال الحجر وأنواع الشجر على الإطلاق بغبائه، لكنه يبقى ابن أخي فوافقت على طلب صداقته.
دارت الأيام وأعجبت بمنشور لأحد الأصدقاء كان قد كتب فيه أبيات شعر رقيقة لامست قلبي وداعبت فؤادي، كانت الأبيات على ما أذكر:
لا تسألوا القلبَ بَعدَ الهجرِ في عَجَبٍ
إن كـانتِ الروحُ قد عانت بهِ شَيَّا
ليسَ العــجـيبُ أنـيـنـي إنّما عَــجَــبِي
كيفَ الهوى قد سلاني بعدَكم حَيَّا
أعجبني ما قرأت، واسترجعت ذكريات مضت وابتسمت، كم أحببت الشعر أيامها، آهٍ لهذا الزمان ما أسرع دورانه، ها أنا اليوم قد تجاوزت الخمسين، ولا زال بقلبي لهاتيك الحقبة حنين، وخطر ببالي بيت شعر كنت قد كتبته في غابر الأيام، لم أذكره في لحظتها بالتمام، لكني تذكرته وكتبته مجددا بعدما نكشت ذاكرتي وقلبت مكنونها رأسا على عقب. خطر ببالي على الفور أن أكتبه وأجعله منشورا على الفيس-بوك، وراقت لي الفكرة فكان أول منشور لي على الفيس-بوك بيتين من الشعر هما:
هَرَعتُ إلِى الأقلامِ من وَقعِ شَوقِهَا
فَما خَطَّتِ الأقلَامُ حَرفًا مِنَ الألَمْ
وَما كُنتُ بالأشواقِ إلّا قَصيدَةً
ولكنَّ أقسَى الشَّوقِ مَا حَيَّرَ القَلَمْ
شعرت بغبطة بعدما كتبت هذه الأبيات ونشرتها على صفحتي في الفيس-بوك، لا أدري لماذا، ربما لكونه أول منشور أو هي ربما لذكريات لاعبت فكري وظني كما قالت ام كلثوم، زادت سعادتي مع ازدياد اللايكات التي حصدها المنشور والتعليقات الجميلة، وعلى كل تعليق ضغطت زر اعجاب وكتبت ردا جميلا يناسبه كما أوصاني ابني جمال عندما فتح لي حسابا بالفيس-بوك، الا تعليقا واحدا حيّرني وأغاظني بعض الشيء، كان تعليق الأفندي أسد الأمَّة، كتب لي ما معناه "بعد ما شاب راح الكتَّاب". في الحقيقة، الوقاحة في تعليقه لم تغضبني بقدر ما أغضبتني أخطاء الإملاء والنحو في تعليقٍ ربما أراده شعرا أيضا ، كنت أكيدا بأنه لا يقصد أن يكون وقحا، هو الغباء فقط ما جعله يكتب ما كتب، أما ما كتب فقد كان عبارة عن جملة فيها تسع كلمات وتحمل عشرة أخطاء إملائية هذا اذا تجنّبنا النحو والصرف. حيّرني تعليقه كيف أرد عليه فامتنعت عن الردّ وحتى عن ضغط زر الاعجاب، وبقي تعليق أسد بين التعليقات بغير رد ودون اعجاب.
بعد يوم من تعليق أستاذ زمانه وسابق عصره وأوانه أسد الأمّة رأيت له تعليقًا على منشور البروفيسور أنور سالم ينتقد فيه البروفيسور على خطأ املائي أظنه سقط سهوا وأتى في كلمة واحدة واضحة للعيان، للصغير والكبير والذكر والأنثى والمؤمن والكافر، في منشور يحوي ما لا يقل عن خمسين كلمة.
فضحنا هذا الأحمق الأهبل، ما قلّة الاحترام هذه، أغلقت التطبيق من دهشتي ضيقي، ثم تذكرتُ أن أرى ما تعليق البروفيسور على كلامه، فدخلت مجددا الى التطبيق ووجدت أنَّ تعليق البروفيسور كان كلمة واحدة: ’’ شكرا ‘‘. فتساءلت إن كان بإمكاني أن أعلق لأسد بذات الكلمة، أو كلمة أخرى من ذات القبيل، لكنّي لم أشأ، فبقي تعليقه بغير اعجاب ودون رد.
من مساء ذات اليوم صادفت أسد في المخبز المجاور لبيتي، وفي خضم تردّدي لأتكلم معه أو أتجاهله اتجه إلي وعاتبني على ابقائي تعليقه دون رد ودون اعجاب، فقلت له مبتسما "حقك علي، سأعلّق قريبا وأضغط على تعليقك زر إعجاب". في صباح اليوم التالي سألني ابني جمال ماذا كان يريد أسد، ولماذا عتب عليك في المخبز؟ أخبرت جمال أن ينسى الموضوع فلا شيء فيه مهم. حاول جمال أن يعرف فتجاهلت أسئلته وذهبت الى مكتبتي وجلست بين الكتب، ثم تخيلت جمال يلحّ في معرفة سبب عتاب أسد لي البارحة فخطر ببالي ما ظننته ردّا مناسبا على أسد وتخيلت أني أخبر جمال بقصة أسد كاملةً بعدما ألح وأصرّ ليعرف سبب عتابه فكتبت هذا النص:
وَلَمَّا ألْحَفَ وأصَرَّ، وَأبَانَ مَا أسَرَّ، مِنْ رَغبَةٍ جَمُوحٍ، بِكَشفِ المَطروحِ، فِي أُطِرِ المَسمُوحِ، أنْ كَيفَ صَدرُهُ هَائِجٌ، وَفِعلُهُ مَائِجٌ، كَالبَحرِ الجَائِشِ، بلسانٍ فاحشٍ، يَشتُمُ وَيَلسَعُ، وَقَد شَذَّرَ وَشَنَّعَ، وأنتَ عنهُ مائلٌ، في وَقَارٍ مَاثِلٌ، بِعَظيمِ سِعَةٍ، وَبِكُلِّ دِعَةٍ، ألا يَعنِيكَ تَقَلُّبُهُ فِي الشُّرُورِ، ألا اكتِرَاثٌ ولا أدنَى شُعُورٍ؟ فَقُلتُ لابنِي وَخَلِيلِي، مَا مَنطِقِي وَدَلِيلِي، وأنشَدتُهُ قَطعَةً، أرِجَت رَوعَةً، كَمَا أوفَتِ الغَرَضَ، فِي هَذَا المَرَضِ:
مَا كُنتُ أسعَى لِرَأيٍ فِيهِ أو خَبَرٍ
هَذَا جَهُولٌ مُــــغَــــــــاظٌ مِن تَجَـــاهُلِهِ
مَا حِرتُ رَدًّا وَلَكِنْ نَفسُهُ دَنُؤَتْ لَــــولَا تُصِـــــــــرُّ بِهِ، فَاعـــــــــلَمْ مَكَانَتَهُ
يَزِيدُ جَـــــهلًا وَقَد زَادَت سَفَاهَتُهُ
أدنَى مِنَ الرَّدِّ والإغْضَاءُ قِيمَتُهُ
كتبت هذا النص ونظرت إليه فوجدت نفسي أضحك مقهقها بصوت عالٍ! أأجعل هذا النص ردًّا على الأحمق أسد! لا والله ما كان. لكني وعدته بالرد فماذا أقول له لأتجنّبه؟ حيّرني هذا الأبله، وما زاد ضغطا عليّ وحيّرني أكثر أنه كان على الدّوام أون-لاين، وكأنّه ينتظر ردّي عليه. ولمّا ضقت صدرا بحيرتي قلت بنفسي وتساءلت لِمَ أنا محمّلٌ الموضوع هذا الثقل ومعطيه هذا الحجم، ولِمَ لا أكون صادقا وأكتب له ما أنا فيه، أي أنه حيّرني، فوجدت نفسي مُعَلِّقا على تعليقه ببيت شعر هو:
هَرَعتُ إلِى الأقلامِ من وَقعِ جَهلِهِ
فَما خَطَّتِ الأقلَامُ حَرفًا مِنَ الألَمْ
وَمــــــــــا كُــــنتُ للجُهَّالِ إلّا مُــــقَـــــــــــــــــارعًا
ولكنَّ أقسَى الجَهلِ مَا حَيَّرَ القَلَمْ
ضحكت بعد تعليقي هذا، لكن لا أنكر قلقي من ردٍّ غير محترم لأسد، وهو أمر غير مستبعد عن غبائه، لكن ردّ أسد أتى سريعًا وكان كلمة واحدة مثل تعليقات الفُهماء، كتب "جميل". فضغطتُ على زر الواااو.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com