مغامرة مسقط/ بقلم: محمود الريماوي

محمود الريماوي
نُشر: 01/01 08:16,  حُتلن: 13:26

محمود الريماوي في مقاله:

تعرف مسقط جيدا محدّدات حكومة اليمين المتطرّف الحاكم في تل أبيب

مسقط اعتمدت، بصورةٍ ما، طريقة ترامب وإدارته في مقاربة الأزمة وكسر الجمود

تشدّد سلطنة عُمان في سائر المناسبات، وفي مختلف المحافل، وفي مجمل الخطاب السياسي والدبلوماسي، على أهمية الحوار والتفاوض لحل النزاعات وإحلال السلام، ويطمح هذا البلد إلى أداء دور فاعل في نزع فتيل الأزمات والتقريب بين الفرقاء المتنازعين، وبالذات في منطقة الخليج العربي وفي الشرق الأوسط. وترى مسقط أن خصوصية السياسة العُمانية واستقلاليتها تتجليّان، في المقام الأول، في هذه السياسة القائمة على "الدبلوماسية الإيجابية"، وتوفير "بيئة إيجابية" لحل النزاعات، وهو دورٌ يتعدّى مفهوم الوساطات إلى توليد أفكارٍ جديدة. وكما يبدو وبهذه الرؤية، فقد أقدمت مسقط على خطوةٍ دراماتيكيةٍ باستقبال رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، "دولة بنيامين نتنياهو" كما وصفته وكالة الأنباء العمانية الرسمية يوم 26 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

جاء هذا التطور بغير تمهيدٍ مسبق، وإن كان قد تم بعد اتصالات سرية حثيثة بين الجانبين، شاركت فيها جهاتٌ أمنيةٌ عليا إسرائيلية. كما جرت زيارة نتنياهو وزوجته (سارة) بعد يوم من اختتام زيارة للرئيس الفلسطيني، محمود عباس، إلى العاصمة العُمانية، دامت ثلاثة أيام. وقد أحيطت تفاصيل زيارة نتنياهو بالكتمان. وأكد نص بيان مشترك، صدر في ختام الزيارة، أن "اللقاء تناول سبل دفع عملية السلام في الشرق الأوسط، كما تم خلاله بحث قضايا ذات اهتمام مشترك تتعلق بتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة".

وقد سارعت مسقط، وعلى لسان الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية، يوسف بن علوي، للتشديد على أن السلطنة لا تقوم بالتوسط بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وأنها معنية بعرض "أفكار للتقريب والتيسير". وواقع الحال أن مفهوم الوساطة لا يقوم فقط على نقل رسائل بين طرفين متنازعين، بل يشمل عرض أفكار، وربما مقترحات، بغرض التجسير بين الطرفين المعنيين، وهو ما يفسر انتقال بن علوي إلى رام الله، يوم 31 أكتوبر/ تشرين الأول، ولقاءه الرئيس عباس، وتسليمه رسالة من السلطان قابوس بن سعيد.

وبنظرة إلى الوراء، انغمست سلطنة عُمان في مجرى الصراع العربي - الفلسطيني/ الإسرائيلي، على نطاق محدود بعض الشيء، لكنها التزمت على الدوام بمحدّدات المواقف، كما عبّرت عنها القمم العربية وبيانات جامعة الدول العربية وقمم مجلس التعاون الخليجي. وبينما أقامت مكتب اتصال مع تل أبيب في العام 1994، إلى جانب دول أخرى، منها قطر وتونس والمغرب، ثم استقبلت رئيس الوزراء آنذاك، إسحق رابين، في أعقاب توقيع اتفاقية أوسلو الفلسطينية - الإسرائيلية، إلا أنها لم تلبث، إلى جانب الدول العربية الأخرى، أن أغلقت مكتب الاتصال بعد اغتيال رابين، وبعد جنوح المجتمع السياسي الإسرائيلي نحو خط اليمين المتطرّف الرافض أوسلو، وأي تسويةٍ تنتهي بدولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.. وهو الخط الذي ما زال سارياً.
وقد بقي الأمر على هذا النحو مع انسداد آفاق التفاوض بين رام الله وتل أبيب، نتيجة التنكّر الإسرائيلي التام لموجبات السلام، والإمعان في التغول الاستيطاني، حتى أدّى الوزير العُماني بن علوي زيارة إلى رام الله في فبراير/ شباط الماضي، وزار المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، حاملاً معه للمقدسيين هدية من البخور العُماني، وداعيا العرب إلى زيارة بيت المقدس (فمن رأى ليس كمن سمع، كما قال). وقالت وزارة الخارجية الإسرائيلية حينها إنها "لا علم لها بالزيارة".. وكان ينقص تلك الوزارة القول إنها سمعت الخبر من وسائل الإعلام فقط! وسادت انطباعاتٌ قويةٌ آنذاك أن مسقط عازمةٌ على خوض مغامرة الدخول على خط إنضاج الظروف، لتسويةٍ شرق أوسطية، وتطورات الأسبوعين الأخيرين تدلل على صحة تلك الانطباعات.

واضحٌ أن مسقط تدرك استعصاء الوضع القائم، وتعرف جيدا محدّدات حكومة اليمين المتطرّف الحاكم في تل أبيب، غير أن هناك ما يشبه الرهان على أن البيت الأبيض في واشنطن عازم على إطلاق صيغة حلٍّ جرت تسميتها إعلاميا "صفقة القرن". ولئن كان الإعلان عن هذه الصيغة قد تأخر عن الموعد المرسوم في أواسط العام الجاري، نتيجة منح التحدّي الإيراني الأولوية على ما عداه، والانشغال بصراعاتٍ تجاريةٍ مع الصين والاتحاد الأوروبي وتركيا، إلا أن مسقط، كما هو بادٍ، تزمع اهتبال هذه الفرصة للتساوق معها، وإن كان ذلك لا يعني بالضرورة قبولاً تاماً مسبقاً، أو لاحقاً، بتلك الصفقة. غير أن الرؤية العُمانية، كما تشي بها المواقف المعلنة، تقوم على أهمية أن تتفاعل الأطراف الإقليمية مع هذا التطور، لا أن تترك للطرف الدولي وحده فرصة المبادرة والطرح، فالأطراف الإقليمية هي المعنية، وهي أوْلى بالاهتمام بوضع تسويةٍ من أية أطرافٍ أخرى. وهو ما عبّر عنه بن علوي، في منتدى للأمن الإقليمي في البحرين يوم 27 أكتوبر/ تشرين الأول، حين قال إن بلاده "تعتمد على الولايات المتحدة ومساعي رئيسها دونالد ترامب في العمل باتجاه صفقة القرن". وواقع الحال أن زيارة بن علوي الأولى لرام الله في فبراير/ شباط الماضي تزامنت مع بدء أحاديث الدوائر الأميركية عن صفقة، وما تلا ذلك من انقطاع الاتصالات بين رام الله وواشنطن، ثم تواصل المواقف الأميركية العدائية تجاه الفلسطينيين.

غير أنه يسترعي النظر أن مسقط اعتمدت، بصورةٍ ما، طريقة ترامب وإدارته في مقاربة الأزمة وكسر الجمود، فبينما اعتمد الرئيس الأميركي أسلوبا خاصا في إحداث صدماتٍ سابقةٍ على طرح الحل، وذلك بتقديم هدايا سخية للمحتلين، وبأكثر مما يطلب هؤلاء: وقف المساعدات عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، إغلاق مكتب بعثة منظمة التحرير في واشنطن، وقف المساعدات عن السلطة، التسليم بتسمية الاحتلال القدس عاصمة له، فقد ارتأت مسقط اعتماد أسلوب الصدمة نفسه، وبطبيعة الحال بوتيرةٍ أقل، وذلك باستقبالٍ رسمي حافل لرئيس حكومة الاحتلال، أعقبته بعد مضي يومين كلمةٌ لبن علوي في المنامة، أعلن فيها "إن إسرائيل دولة موجودة في المنطقة، ونحن جميعا ندرك هذا. العالم أيضا يدرك هذه الحقيقة، وربما حان الوقت لمعاملة إسرائيل بالمعاملة نفسها (كالدول الأخرى)، وأن تتحمل أيضا الالتزامات نفسها". وهي إشارة واضحة تحمل العزم على تطبيع العلاقات مع الدولة العبرية، وكما هو حال العلاقات مع بقية دول العالم. وقد قفز بن علوي عن واقع أن الدول الأخرى لا تقوم باحتلال أرض الغير، وتزدري القرارات الدولية، كما تفعل إسرائيل، وهو ما جعله يستدرك، في الفقرة نفسها، بالقول إن على إسرائيل الالتزامات نفسها التي على بقية الدول. ويرغب المرء في الاعتقاد هنا أن الوزير العُماني يقصد التزاماتٍ محدّدة، تتعلق باحترام القرارات الدولية ذات العلاقة وأحكام القانون الدولي، وليس مجرّد التزاماتٍ مبدئية فضفاضة.

وجملة القول هنا إن مسقط تخوض مغامرة الابتعاد عن فحوى مبادرة السلام العربية (تطبيع شامل مقابل سلام شامل) التي رفضتها تل أبيب، والشروع في سلام إقليمي واقتصادي قبل إحراز السلام بين طرفي الصراع، فيما تدلّ خبرة الصراع ومشاريع التسويات على أن إسرائيل كدولة (ليست أبداً مثل الدول الأخرى) تبرع في استثمار مثل هذه الفرص في الإطباق على الأرض المسلوبة، ومضاعفة التنكيل بالشعب الرازح تحت الاحتلال، وجعل السلام مجرّد فقاعاتٍ في الهواء، وفي أحسن الأحوال، مجرد مشروع مؤجّل إلى ما لا نهاية. وسوء الظن (بالسيئ الإسرائيلي) هو من حُسن الفِطن، كما قالت العرب قديماً. وسيظل المرء، إن شاء الله، واثقاً بالفطنة العُمانية.

* نقلًا عن العربي الجيد - لندن

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net   

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة