الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 09 / نوفمبر 16:01

في حضرة الدكتور السمرة بقلم ب. فاروق مواسي

بقلم ب. فاروق
نُشر: 11/11/18 10:22,  حُتلن: 08:39

د. محمود السمرة و ب. فاروق مواسي

ب. فاروق مواسي:

أنصت إلي وأنا أمتدح " كتاب الشهر" وما كان يكتبه بأسلوبه السلس الرائق، وذكر أن هناك نية لإصدار المواد كلها في كتاب

 تعرفت إلى د. محمود السمرة أولاً فيما نشره في صفحات مجلة العربي، وكانت زاويته "كتاب الشهر" تثير اهتمامنا نحن الذين نتصيد المجلة في منطقة حيفا أو الناصرة – أيام كان الحرف العربي بين ظهرانَينا غريب الوجه واليد واللسان. 

كنا نستشعر ذوقه وهو يلخص الكتاب بالعربية أو الإنجليزية، ويبدي ملاحظاته النقدية عليه، فنحاول أن نقلده دون أن نجد من ينشر لنا.
كانت الدعوة التي شرفني بها د. أسعد عبد الرحمن، وهو صهر السمرة، فرصة نادرة جمعتنا في مطعم زميرو (5 آذار 1995). يومها قال لي أسعد: "ستكون لك مفاجأة" ، ونعم المفاجأة، فقد حضر د. محمود السمرة مرحبًا، وأجلسني إلى جانبه، وأهداني بعض كتبه، ومنها "دراسات في الأدب والفكر"، حيث كتب في الإهداء: " ذكرى لقاء سعدت به في عمان".
والواقع أنني أنا الذي سعدت أكثر، فهو محدث لبق، وصاحب بداهة وطرفة، حتى لحقني رشاش منها، وهو يقول: "والله يا باكا"، فباقة بلدي يلفظها سكانها بترقيق القاف، فهو يعرف القرية، أيام كان يمر منها في طريقه إلى طولكرم. أصابني مزيج من المشاعر، فهو من جهة يستذكر بلدي كما يصفها وهي مغطاة بدخان الطوابين، وأن أهلها لم يكن بينهم متعلم واحد، ومن جهة أخرى يمتدحني أنني ذلك الذي فاجأ.
أنصت إلي وأنا أمتدح " كتاب الشهر" وما كان يكتبه بأسلوبه السلس الرائق، وذكر أن هناك نية لإصدار المواد كلها في كتاب. (يشير السمرة في سيرته الذاتية- إيقاع المدى إلى أنه عُرف أولاً وقبلاً بين الجمهور الواسع عن طريق هذه الزاوية – ص 122).
* * *
أما اللقاء الذي لا أنساه فهو في منزله العامر الأنيق في عمان ( 29 /10/2009).
كان الرجل العظيم متهالكًا يقود خطوه وحده بصعوبة، ينظر بعينيه الملونتين ليضفي لون العذوبة للقاء. قبالته كانت السيدة ربة البيت سهام تراقب وتوزع الرقة. هي امرأة ما زالت تحافظ على جمالها، دؤوبة على النظافة، حتى لقد عجبت من المكتبة الفخمة التي لم أجد عليها ذرة غبار. ومن خلال الصفحات التي أثبتها في "إيقاع المدى" نجد هذا الوصف المحب، والرسائل العاشقة لها (ص 85-102).
يسألني أبو الرائد عن أحوالنا نحن المرابطين في الجليل والمثلث والنقب والمدن المختلطة، فأجيبه أولاً عن الطنطورة بلده، وكيف أنني أتذكره كلما جئت شاطئها، فهو حي في ذاكرتها، ودعوته لأن يصحبني إليها بعد استحصال تصريح، فأبى، بسبب تقدم سنه وصعوبة السفر، كما أبى د. إحسان عباس من قبل يوم أن عرضت عليه أن أسافر به إلى عين غزال ليكحل عينه بمناظرها الخضراء.
قلت له: عرفت أنك اطلعت على بحث داني كاتس عن الطنطورة والمذبحة التي جرت فيها
(إيقاع ص 51)، ولكنك قلت إن داني " غيّر ما كتبه"، وللحقيقة فإنه لم يغير، بل اعتذر في المحكمة، وفي لحظة ضعف للكتيبة المعتدية، ثم ما لبث أن تراجع وعاد إلى رأيه ليقف موقفًا صارمًا لا هوادة فيه وهو ينافح عن دعواه. وأنا أعرفه شخصيًا، فهو يسكن على مبعدة ثلاث كيلو مترات من بلدتي، كما أعرف سبب التراجع المؤقت الذي طرأ عليه.

* * *

أحتفظ بمكتبتي الخاصة بمعظم كتب الدكتور، إن لم يكن كلها، وقد حصلت على بعض منها إهداء منه، فهي كتب قيمة، أذكر من بينها على وجه الخصوص كتابه عن القاضي الجرجاني – الأديب الناقد، فهو حجة في موضوع السرقات الأدبية التي درسها في هذا الكتاب، ومن جهة أخرى ما زلت أحفظ ما أثبته من شعر في بداية الكتاب على لسان القاضي: يقولون لي فيك انقباض....وأعترف أن بعض أبيات القصيدة المثبتة في الكتاب أثرت على سلوكي قولاً وفعلاً.
غير أنني أشرت له بأن كتبه عن العقاد وطه حسين ومحمد مندور لا تقدم إلا استعراضًا يضاف إليه ذوقه الرفيع، وأما البحث المستقصي فالدراسات الحديثة توليه تعمقًا أكبر وأكثر.
قبل ملاحظتي برحابة صدر، ذاكرًا أن السلسلة هذه إنما هي تعريف للمثقفين ولشداة المعرفة.

أما كتاب "إيقاع المدى" – سيرته الذاتية ( الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- 1966) فهو سيرة تعكس أن هذا اللون من الأدب له أهميته، لما له من تجميع في التجربة الأدبية، وتوثيق للحياة بكل جوانبها المتاحة للكاتب اجتماعية أو أدبية، سياسية أو فنية، ولما لها من تواصل مع المتلقي. فسيرة السمرة سلسة الأسلوب، مشوقة لما فيها من صدق في التعبير، وأصالة في الموقف. هو يركن إلى الشعر حيث يجب أن يكون، يثقفنا ويعرفنا إلى رحلاته، بل يصحبنا معه، فنذوق أطعمته، ونلهج بمشاعر الود منه وإليه.
عندما التقينا حدثته بانبهار عن الكتاب الذي أرى فيه سيرة فنية مميزة، لا تقف بموازاتها سير أخرى صدرت مؤخرًا ، لكن لي تساؤلات عرضتها أمامه: منها أنه لم يذكر أي سنوات علم في فاضلية طولكرم، ولم يذكر لنا شيئًا عن تجربة التدريس سنتين في يافا. والعجيب أنه لم يعرفنا بوالده داود، والأعجب أنه حين زار البلاد بعد النكسة ، وذلك سنة 1968 زار يافا ولم يزر الطنطورة؟ بل إن الحديث عن شوقه للطنطورة كان بنسبة ضئيلة إزاء التفصيل المحبب في العرض. كما أن الحديث عن أطروحته للدكتوراة في لندن كان موجزًا جدًا.

غير أن للأديب الحرية في انتقائية أحداثه، وإلا فكيف نقتنع أن المرأة في حياته لم تكن إلا زوجته اليوم؟ خاصة وهو المسافر الوسيم، والحصيف اللطيف؟
أجابني الدكتور مبررًا بإيجاز في كل مسألة، لكننا سرعان ما عدنا لنتحدث عن الرسائل من سهام عقيلته وإليها، وعن براعة الرسائل، وأشرنا إلى ضعف هذا اللون الأدبي اليوم، فأين الرسائل اليوم بين الأدباء أو بين المثقفين، فالبريد الإلكتروني يقدم الرسائل السريعة والبرقيات التي غالبًا ما تضيع.
ابتسمت المصون بدلّ واعتزاز إذ انفردت بغزلياته، واستمعت إلي وأنا أردد البيت الذي كتبه لها (وهو من شعر الشريف الرضي):
سكنتِ سواد القلب إذ كنت شبهــه
فلم أدر من عزٍّ مَـن القلبُ منكما؟
ذكرت للدكتور بعض النقاط التي وردت في السيرة، ولا أراها بريئة تمامًا، فابتسم ، وقال: "والله ما انت قليل".
* * *

ثم عدنا إلى حديث السياسة، فهو يرى أن العرب ليست لهم رؤية واضحة فيها، وتحدثنا عن كتابيه اللذين خصصهما لفلسطين: "فلسطين- الفكر والكلمة" (1974)، "فلسطين أرضًا وشعبًا وقضية" (1980)، فكانا مصداقًا لرؤيته بوجوب خدمة المثقف الحقيقي لقضايا وطنه: " وأنا أومن أن المثقف لا يجوز أن يقف صامتًا من القضايا المصيرية التي تهدد الوطن والأمة" (إيقاع ص 198).
قلت له: ما ألمسه في أثناء زياراتي للأردن هذا الحب لك، وأني لأغبط الأدباء الذين يشاركون في صالون الأدب كل شهر في بيتك العامر الغامر بالكرم والمحبة"، فقال: أريدك أن تأتي مرة، فأرجو أن تنسق مع حبيبنا د. خالد جبر!.

* * *

أسأل نفسي : لماذا تجد هذه الراحة الكبرى في نفسيتك وأنت في حضرة المعلم؟
أجبت نفسي: ما أكثر ما نلتقي، فمثلاً رأيه في جورجي زيدان ورواياته حول التاريخ الإسلامي يوافق رأيي ، فأنا طالعت الروايات وأذهب إلى أن معرفتي في تاريخ الإسلام مصدرها روايات زيدان، وعندما كنت أذكره أمام محدثيّ كانوا يتصدون لي أنه مدسوس، يدس السم في العسل إلخ ولم أجد أحدًا يقول ما قاله أستاذنا السمرة: " جورجي زيدان لم يُقدر حتى الآن قدره" ( السيرة ص 30).
وأرى هنا من يوافقني على الهوة التي تتردى أكثر فأكثر بيننا وبين العالم، فيقول بصريح القول: " الهوة التكنولوجية والثقافية والحضارية بيننا وبين العالم تتسع..."
أما رأيه في التراث فهو جريء إذ يقول:

" فهناك التراث العبء الذي يجب أن نرفضه، لأنه يقف دون الأمة والتقدم، فالانبهار بكل ما في التراث والانشداد إليه بحيث يعيش المرء فيه، ويستغرقه، ويصرفه عن قضاياه ومشكلاته إنما هو في الواقع تعطيل لقوى الإنسان الفاعلة، القادرة على الخلق والإبداع، وهو نوع من الهروب من هموم الحاضر وتحدياته" (إيقاع ص 199)
فأين هذا القول مما سمعته في مؤتمر جدارا مؤخرًا حول سؤال النهضة، فقد طغت أجواء المحافظة على التراث، حتى أن إحدى المحاضرات ذكرت أنه يجب أن "نأخذ التراث كله لنحافظ على هويتنا" ، فكان أن علقت على ورقتها في مداخلة لي: "معنى ذلك أنك تريديننا أن نعيش في القرون الوسطى"!


ومن يدري فلعل أصداء قوله" لا يترك المرء للحسد والضغينة والحقد مكانًا في نفسه، لأن هذي تمرض النفس وتشقي الإنسان" واردة في وجداني، كما أجد أصداء قولته " القلوب السعيدة هي العامرة بالمحبة" (إيقاع، ص 200) تتردد في الخاطر.
لن أسترسل في ذكر ما أحبه، فذلك كثير وفير، فالرجل عاش حياة خصبة، بمسؤوليات جسيمة، وبمراكز ومناصب رفيعة تسنمها، فأقواله وكتاباته أقرأها أكثر من مرة، فأجد في كل مرة طعمًا جديدًا محببًا وموصولاً.
وليس ثمة وصف أقرب إليه من وصف الصديق د. إبراهيم السعافين إذ يقول في تكريمه ( في حفل رابطة الكتاب الأردنيين سنة 2003) :

" فهو مع شخصيته المهيبة التي لا تقتحمها العين، ودود محب، محبوب، تشعر أمام شخصيته الأنيقة الجذابة بالتوقير والاحترام، وإن جاز لي أن أصف شخصية الدكتور السمرة بعبارة تنتمي إلى عالم الأسلوب فلا يسعفني إلا الوصف "السهل الممتنع".
وأخيرًا، يسعدني أيها المعلم أن أهديك كلماتي هذي من فلسطين على مبعدة ثلاثين كيلومترًا من الطنطورة ومن بحرها، فتلمس كم نحبك، وتصغي إلى دعائنا وثنائنا، جزاك الله خيرًا وبرًا!
 

مقالات متعلقة

.