مريم فتاة قروية مستورة الحال، صبية جميلة كزهور الربيع اول تفتحها. لمحها تاجر خضار وفواكه متجول ، طابت نفسه لها، طلب يدها من والدها. تردد الأب بسبب فارق الجيل. هل يجوز تجويز البنت من رجل بجيل جدها؟ فكر: في ذمته زوجتين وإحدى عشر ولدا. ولم يصل الى قرار.
قال التاجر: "المال يصنع الرجال ويشتري السعادة" وأضاف: "أملك عدة منازل وقطعة ارض، واموال يسيل لها لعاب الشياطين.. فهل يحلم الأب بضمان أفضل من هذا لأبنته؟" وبعد صمت قصير تريث ليرى تأثير خبر ثروته المصرح بها على والد مريم قال: "ولك المهر الذي تطلبه والمؤخر الذي يضمن مستقبلها".
كان جمال الابنة يثير مخاوف الأهل لكثرة الخطاب، ولكنهم "كحيانين".. رغبتهم بالزواج منها يحركه جمالها. هذا لا يطمأن الأهل من ستر ابنتهم وراحة بالهم من زوج بالكاد يعيل نفسه ، ولا يفكر الا بليل الدخلة..
اغرق التاجر بيت والد مريم بكل ما لذ وطاب من خضار وفواكه شهية، اراد الأب ان يرده، ولكن قلة ذات اليد، وسعادة اطفاله بهذا الخير الدافق، جعله يمتنع عن الرفض الفوري ويتمهل مفكرا حائرا في أمر ابنته.
حتى لا يتحمل وزر خطيئة ابنته يوم الحساب، فيما لو حدث مكروه في المستقبل، قرر ان يجمع رجال العائلة، اخوالها واعمامها ليبلغهم بالأمر طالبا مشورتهم.
قالوا رأيهم بلا تردد وبلا خلاف ان البنت كبرت و"عيون الشباب الصايعين عليها"، والبنات قليلات عقل ودين مثل سائر النساء، هذا حكم ديني واضح، وان ستر البنت ثلثي الدين. والرجل البالغ المجرب أفضل من الشاب "الكحيان" الذي لا يطمع من البنت الا بالمضاجعة والتشاطر عليها برجولته، والتفاخر انه نكح أجمل بنت في البلد، ثم تذهب الفرحة ويبدأ الجد، فيبرحها ضربا وكأنها المسؤولة عن قلة الرزق.. وربما "يأخذها لحما ويرميها عظما."
تاجر الخضار تصرف بشرف وقدم ضمانات، عاد لوالدها يطلب يدها واضعا الشروط على نفسه قبل ان تطلب منه، تعهد بضمان بيت شرعي لها، تلبية كل احتياجاتها، مهرها المقدم والمؤخر، وانه لن يبخل على والدها، بل فتح لهم قلبه ويده وجعلهم لا يشعرون بنقص في مأكل او مشرب."فهل يرفسون هذه النعمة؟
لا تعرف مريم كيف زُوجت. لم يسألها أحد، أُلبست فستانا ابيض، جاءت سيارة وحملتها الى بيت زوجها الجديد. كان البيت مجرد غرفة نوم، ملحق به حمام عبارة عن حفرة بالأرض فهمت انها للصرف الصحي، لم تتوقع ما جرى لها في الليلة الأولى، شعرت انها فريسة في قفص مع وحش مفترس. وضع فمه فوق فمها كاتما انفاسها، ولجها وهي تصرخ وتطلب الرحمة متوقعة الموت بين لحظة وأخرى. عندما نال وطره منها نزل لمخدع زوجتيه وهو يبتسم ويجعر ان المرة الأولى دائما صعبة وبعدها ستتعلم انها متعة الحياة. تمنت لو تفارق الحياة وهي مذهولة من الدماء التي تلوثها.. ولم يكن حولها لا ام ولا أب لتشكو همها او لتفهم ما جرى لها..
مع مرور الأيام لم تجد لغة مشتركة مع زوجتيه . مجرد تناول الطعام على طبلية واحدة. عشرات الأيدي تتخاطف اللقم من نفس الصينية. أغلب الأحيان لم تشعر برغبة في الطعام، كانت تكتفي بما يسد الرمق.. وتقضي معظم وقتها منعزلة تبكي، لا تعرف متى يحل الخلاص مما هي فيه، وكم اشتاقت لأمها، لتشكو همها وتسأل عن الذنب الذي ارتكبته لتعاقب بهذا الشكل، ولكن لا زيارات ولا اتصالات، ولم تجرؤ ان تطلب من الوحش الذي يفترسها بعد العشاء، ان يأخذها لزيارة أهلها. لم تعرف منه الا وزنه ورائحته النتنة فوق الفراش وانفاسه الثقيلة وصوته الذي يشبه نهيق الحمار وضحكته الكريهة بعد ان ينهض عنها راضيا عن نفسه.. يتركها مذهولة باكية يأكلها القرف من حياتها.. داخل "الزنزانة" التي فهمت انها بيتها الشرعي!!
فجر احد الأيام استيقظت على صراخ الضرتين وبكائهما، صراخ مخيف اشعرها ان مصيبة قد وقعت، بعد لحظات فهمت ان زوجها خرج باكرا كعادته، ووقع بين سيارته وشاحنة كبيرة تصادم مروع، وانه فارق الحياة. لم تشعر بألم ما، بل شعرت بانتهاء كابوس مرعب، كانت تصلي لله ان يميتها ويخلصها من عذابها، فها هو يستجيب لها، أبقاها حية وأمات زوجها الهرم.
جاء والديها لحضور مراسيم الأجر. اختلت فيها امها تشرح لها حقوقها من الميراث ولم تكن تفكر الا بأنها تخلصت من كابوس مرعب. بكت أمها:
! - بعدك صغيرة وترملت.. رحمتك يا رب
- بل شكرا يا رب على لطفك..
- عيب يا مريم.. الرجل زوجك.
- رمتوني كما ترمى عظمة للكلب. لا اعرف معني الزوجية. كان كابوسا رهيبا انقذني منه الرب. نعم، ارملة شابة ولا زوجة لوحش مفترس.. لا اعرف منه الا رائحته وكأنه يحمل حظيرة خنازير بجسمه وأنفاسه...
- اخرسي انه زوجك
- لم أختره.. ولم أشعر باني امرأة معه.. بل فريسة يتلذذ بها ولا تعرف من علاقتها معه الا رائحته المقززة وشهوته الحيوانية..
صمتت امها بحيرة، وهمست ترجوها ان لا تتفوه بشيء مما قالته امام والدها ورجال العائلة الذين نصحوا والدها المتردد بتزويجها. فردت بحرقة غضب:
. - بئس الرجال اذا كان هذا تفكيرهم وقرارهم
عادت مع والديها، لم يكن "زوجها المّلاك والذي يسيل لعاب الشياطين من كثرة أمواله" يملك ما يستحق ان تتقاسمه مع زوجتيه. كان نصيبها بضعة الاف من الليرات حصتها من تعويضات شركة التأمين لموته بحادث طرق، الحديث عن املاكه كان كذبا، اذ كل ما يملك مرهونا مقابل قروض بنكية.
كثر الخطاب للأرملة الصبية من المطلقين والأرامل وكبار السن والراغبين بإكمال دينهم بزوجة ثانية وثالثة ورابعة، ولكن مريم لم تعد تلك الطفلة التي يمكن ان يقرر لها "كاملي العقل والدين" مرة أخرى، "حتى لو جزت رقبتي بالخنجر" كما اصرت رفضا للخطاب.
وجدت عملا في مخيطة قريبة من القرية، سرها ان تخرج للهواء الطلق، تتنفس بحرية لأول مرة في حياتها، تعاشر زميلاتها في العمل، يأكلن سوية، يضحكن سوية، ويقلقن الواحدة على الأخرى وكأنهن من رحم واحد.. يتحدثن بطلاقة وبلا وجل عن مشاكل الزواج والأولاد والرجال الذين لا أمان لمعظمهم. الأهم شعورها بانها فتاة حرة، أخذت مصيرها بيدها. ليست ناقصة عقل، او ناقصة دين. بل "أبيع عقلا لمن يريد من الرجال" كما كانت تقول ساخرة بشكل يثير الضحك بين العاملات.
لم ينفع تدخل الأقارب لزجرها عن الخروج الى العمل بحجة ان "بنات عائلتنا كرامتهم في بيتهم وليس بالعمل في المصانع مثل الرجال". كانت ترد بغضب وجرأة "عن أي كرامة تتحدثون يا رجال العائلة الشرفاء، عن تزويجنا من هرم قذر مقابل بعض الخضار والفواكه"؟
الحقيقة يجب ان تقال ، خروجها للعمل وفر لوالدها تزويده بمصروفات اساسية هامة، فآثر الصمت وعدم التدخل بين ابنته وأخوالها واعمامها طويلي اللحى.. كان يخاف فعلا ان تقتنع مريم بالجلوس في البيت.. كان يردد بشيء من الوجل وبصوت متردد خافت: "لا تضغطوا على البنت، أخطأنا بتزويجها، وهي تثبت انها أهل للثقة". ويصر رجال العائلة:
- لماذا ترفضين الزواج .. تقدم لك أحسن ناس في البلد؟
. - زوجوهم لبناتكم.. لست معروضة للبيع مرة أخرى
- سنتبرأ منك للأبد.
- يا مرحبا ويا هلا.. هل تريدون توقيعي على البراءة؟
ارتفت يد أحدهم بمحاولة لصفعها..
- الذي يمد يده علي سأدخله السجن ولو كان ملك الملوك.
انفض مجلس الرجال خائبا.
أسرن لها زميلاتها ان صاحب المصنع يلاحقها بنظراته، وانه معروف بمغامراته الكثيرة، فخذي حذرك منه. لم يكن ذلك مفاجئا، لاحظت من يوم قبولها ، ان جمالها كان المقرر في استيعابها للعمل. كان يدعوها لمكتبه ويكلفها باعمال شبه مكتبية، ترتيب، تلحيق تسجيلات، كتابة وصولات بيع، ارسال البريد، الذهاب لاحضار البريد، تسجيل ساعات العمل، توزيع شيكات الأجور.. وغير ذلك من الأعمال التي اشعرتها انها تتحمل مسؤولية ادارية، وانها عنصر فعال ونشيط وليست عنصرا خاملا.
لم تكن غافلة عن نظرات صاحب المصنع، وكلماته التي تحمل الكثير من التلميحات. الأمر لم يقلقها. تعرف ما تريد، تعرف الى أين تتقدم.
صاحب العمل في العقد الرابع، له نظرات حادة، ووجهه يعطيه ملامح شبابية أكثر من جيله، أعزب لأنه على ذمة العاملات: "لا يستطيع الإلتزام بامرأة واحدة".
سألها يوما بدون مقدمات:
- انت نشيطة وتتقنين العمل، اريد ان انقلك للعمل كسكرتيرة للمكتب، هل تعرفين الطباعة واستعمال الحاسوب؟
. - قليلا.. تعلمت في المدرسة وتنقصني الممارسة
. - لا باس ، سارشدك.. وانا على ثقة انك الأنسب
التصق بمقعدها ساعة كل يوم لمدة اسبوع بحجة ارشادها على الحاسوب وطلب منها ان تتمرن على الطباعة. كانت تشعر بانفاسه تلاطفها، بل وتلمس رغبته القوية بالبقاء بلصقها وتنشق رائحة جسدها. تصرفت بشكل طبيعي دون ان تظهر ارتباكها، لكنها لم تعطه الفرصة ليتجرأ بالمزيد..
قررت ان ترتدي في عملها بنطال جينس، وبلايز طويلة الأكمام لا تكشف من الصدر الا قيراطين تحت الرقبة، متحججة بأن المكيف يسبب لها البرد. ولكن البنطال كشف عن قوام فتي ممشوق، غموض ما لا يظهر مثير أكثر.
كان صاحب المصنع يدعوها ليطلع على تفاصيل المبيعات وتركيز ساعات العمل والبضائع المختلفة التي تصل للمصنع، كانت على علم انه مطلع تماما على كل التفاصيل عبر شبكة تصل بين الحواسيب. ولكنها تقوم بما يطلب منها بمنتهى الجدية والتلقائية، وتتلذذ بمراقبة خشوعه عندما تشرح له ، وهي متأكدة انه لا يستمع لشرحها، بل يفكر بها، يتأمل قوامها ووجهها المشرق وحيويتها المذهلة بجاذبيتها، ربما يضاجعها في خياله. يجعلها رقما جديدا في سلسلة مغامراته
وتفاجئه:
- هل تريد اضافة ما؟
- شكرا .. كل شيء واضح. انا سعيد جدا لاتقانك ادارة المكتب، بت اعتمد عليك ولا ارى المصنع بدونك. كل من يتعامل معنا يحسدني عليك.. مديرة بكل معنى الكلمة، دقيقة تماما، جميلة وتشعين الهاما حولك.
لولا جديتها المبالغة، لتجرأ أكثر!!
كانت تتلاشى الرد على تلميحاته الغزلية، مما جعلها تيقن انه يعيد التفكير بحياته، وبمستقبله، وان نجاحه في عمله سيظل ناقصا بدون "...." تهمس لنفسها بسرها الصغير.
تقوم اليه بتصميم. تقف امامه بقوامها الممشوق، وطلتها الساحرة لتستفسر عن موضوع ربما تعرفه أفضل منه، يجيبها شاخصا بنظراته اليها، تشكره بابتسامة تسرق لبه، كأنها تقول له بعينيها ووجهها المتألق المشع كنجم ليلي: "ها انا ملكة، اعرف مكامن سحري، واع جمالي الذي يسرق الألباب، لست للبيع بصحارة خضرة. ولا باغراء وظيفة، ولا بمال. لا امنح نفسي الا لمن يختارني وأختاره بحرية كاملة ومساواة كاملة".
استدعاها بجرأة فجر أحد الأيام. كانت لهجته آمرة:
- مريم اريدك لحديث خاص جدا. اقفلي باب المكتب رجاء.
جلست امامه بأناقتها، وابتسامتها التي تخلب لبه.
- هل يريحك العمل معي؟
- أنت اعدت لي انسانيتي، العمل معك اثراني ووسع عالمي، لم اعد طفلة مغرورة، ولم اعد فتاة يمكن التلاعب بعواطفها ومصيري اضحى بارادتي الحرة.
- مريم.. اعذريني على صراحتى، وتحمليني.. لم التق طيلة حياتي بأمرأة بمثل جمالك ورجاحة عقلك، واعترف اني مسحور بك...
- هذا يرضي غروري طبعا حين أسمعه من أنسان أحترمه وأحترم ما انجزه
- أنا في اواخر العقد الرابع يا مريم، وانت أصغر مني بعقدين. فكري جيدا، لن اغضب لقرار لا علاقة له بعملك ...هل تقبلين الزواج مني؟
- لكني أرملة .. هل فكرت بذلك؟
- أنت إمرأة رائعة، الأرملة انسانة ايضا.. هل الترمل جريمة؟ سأكون اسعد انسان اذا قبلت ان تكوني زوجتي؟
طأطأت راسها بشعور من تحقق حلم كبير، ارادت اخفاء دفق السعادة الذي شعرت به يتفجر من وجنتيها. واختارت كلماتها بتأن ودمعتين تترقرقان في مقلتيها:
- المرأة التي ترفضك تكون بلا عقل، انت انسان رائع ويسعدني ان اكون
شريكتك في الحياة.
*****
لم تعد مريم عاملة في المصنع، صارت صاحبة المصنع تتحمل ادارته بنجاحه وفشله. زوجها تذمر من تدخلها المبالغ، ارادها أكثر في البيت، ربما لرغبات لم يفصح عنها. وارادت ان تكون نشيطة أكثر في العمل.
مع زوجها شعرت بانثويتها لأول مرة، وأحبتها.
السنوات الأولى لزواجها الثاني كانت مليئة بالحب والتفاهم، لم يرزقا باطفال رغم كل المحاولات. غياب طفل جعل التنافر يزداد بينها وبين زوجها. خلافات حول ادارة العمل، خلافات حول مسؤوليات البيت. خلافات حول حول برامج التلفاز..
كان يحاول ان يعيدها امرأة تقليدية، كانت تثور وتصر ان زمن العبودية للنساء انتهى. عرفت عن بعض مغامراته النسائية الجديدة، فاتحته، فغضب. انكر ثم اعترف وقال "اذا لا يعجبك الحال الله وعلي معك انا رفعتك من الفقر الى اليسر".
- لن تقترب مني أكثر.
- لي حقوقي الزوجية.
. - ولي حرمة بيتي وحقي بان لا يخونني زوجي
. - انت كنت صفرا، وانا صنعت منك ما انت عليه اليوم
- بدوني كنت ستخسر كثيرا.. اصبحت شريكتك في كل شيء. مغامراتك ستدمر المصنع ولن اسمح لك بذلك.
. - أنت طالق
. - لن اقبل صفة مطلقة. تزوجتني ارملة، فاعدني ارملة
ثار غضبه وخرج مثل الطلق لا يلوي على شيء. ادار محرك سيارته وانطلق بسرعة جنونية. لم يبتعد كثيرا ، أقل من خمسمائة متر، فقد السيطرة على سيارته المنطلقة بسرعة جنونية. اصطدم بعامود كهرباء وفقد وعيه.
لم يكن امام المسعف وفرقة الاطفاء التي اخرجته بعمل مضني وقص لأبواب السيارة المدمرة، الا الإعلان عن وفاته.
*****
بنت له قبرا جميلا، يعتليه شاهد من الجرانيت الايطالي الثمين. هو يستحق ذلك. نُقش على الشاهد اسمه، تاريخ ميلاده ويوم وفاته وصورته. في وسط الشاهد نُقشت كلمات أخرى بناء على طلبها::ارسل اليك يا الهي بفرح كبير زوجي العزيز، الذي تزوجني ارملة فقيرة وتركني أرملة غنية، كان زوجا مخلصا لعشر سنين كاملة فهو يستحق لذلك الغفران، انا غفرت له مغامراته الأخيرة ،وارجو ان تغفر له أنت أيضا".
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com