أنا من الاشخاص اللذين حلموا بالهجرة ...بل وخططوا لها وحاولوا ذلك بمنتهى الجدّية.
كان ذلك عام ١٩٩٦ عندما تفتحت أنوثتي وبدأ احساس الحب يجذف قاربي... حلمتُ بالهجرة الى البعيد، إلى نهر بوسطن المتجمد في الشتاء، إلى كندا، إلى إستراليا، إلى الارجنتين...
أهاجر لأكتب، لأعشق الوطن الحاضر الغائب، أهاجر لأعيش تجربة الانسانة المتأقلمة مع الظروف والتي تحمل معها هويتها. أهاجر لأعيش وطنين إحداهما لا أمتُ له بصلٍة سوى فطرتي.
بدأت الرغبة بالهجرة تتصاعد داخلي حينما زيّن لنا الأدب المهجري الحياة وضخ الحنين الى الأوطان من خلال السحاب المعلق عبر المحيطات، عشنا خيال الهجرة كأنها بمنتهى السهولة وعلى أنها الحل الأنسب والسحري لمشاكل عالمنا الشرقي الدموي القامع والظالم والمسحوق تحت نير الاحتلال أو الانتداب أو الظلم. عشت رفيقة المهاجر الهلامية لمعلمي الأول جبران خليل جبران، ورسائل الحب المسافرة من بوسطن إلى الشرق وغيره من الأدباء المهّجريين الذين ذكّوا نار الحنين إلى السعادة، كبرتُ وكبر الحلم داخلي وتمّرد.. فالكاتبات اللواتي تركن أعشاش أوطانهن جادت قرائحهن بالكتابة ، هل يا ترى الهجرة الى الغربة تجسر الهوة بين الحياة المتشظية؟
جربّت أن أتجرع الهجرة على مهل ريثما تنضج اللحظة.
حاولتُ أن أدرس الثانوية في بلد آخر غير قريتي لكن القدر وأبي رفضا. حلمتُ أن أتزوج زوجًا من بلد بعيدة شمالاً تحديدًا لكثرة ما سيطرت صورة ذهنية بجمال الشمال وخضرته تمامًا كما وصفه الأدباء في الرابطة القلمية، لكّن القدر شاء أن أتزوج زوجًا قريبًا انتظرته أمه لسبع سنوات حتى رزقها الله به وذاقت لوعة وحسرة الاشتياق لأخيها الذي هاجر في أوروبا الباردة وأبتلعته لأكثر من أربعين عامًا لتمنع ابنها من تكرار الهجرة. وهكذا انقطعت مجددًا خيطان الحلم فتفسخ.
كبرتُ وأنا أتخيل أن الهجرة أمر سهل وأن الغربة لذيذة وأن البرد هناك أفضل من بلادنا الدافئة حتى لو كانت ظروفنا أصعب. تخلينا أن الهجرة بمنتهى السهولة تكتمل بجواز سفر.
ثم استمريتُ في المحاولة لأهاجر عبر أي بعثة، كنت أتمنى ان يلقى زوجي عملًا في دولة بعيدة ليكون سببًا في البعد لكن الطرق كانت موصدة.
حتى انني كلما أردت التسجيل لأي بعثة دولية يفاجئني القدر بحمل متقدم أو ولادة خلال فترة التسجيل والسفر مما يتعذر على الفكرة أن تتحقق. عقدة المكان المخنوق لم تنفك مني!
لا أدري لم هذا الشعور بأن البعيد المجهول هو أحلى وأجمل وأكثر حظاً! لا أدري فعلاً هل يجب ان نكفي حياتنا نعاني بين سفر في داخلنا وهجرة مكانية وغربة أينما تواجدنا.
والعمر يركض وأصبح الآن صعبًا أن أهاجر، وأطياف الشبيبة تطل من شبابيك عمر أولادي وهم أمامي يكبرون. وأصبح تحقيق احلامهم أولى من تحقيق أمنياتنا التي لم تعد سهلة مثلما اعتقدنا ومع الوقت تجذرنا وأصبحت أشجارنا وارفةٌ ظلالها وأغصانها مخضرةٌ أوراقها.
وجربت عبر هذه السنين أن أجيب على تساؤلات كثيرة عن الغربة؟ عن البعد؟ عن الحب والحياة والهوية...
عن الوطن؟ عن الانسانية؟ عن السعادة؟ عن كل الأسئلة الوجودية!
ربما لو قدر الله لي لكانت مسيرة وسيرورة حياتي حتماً مختلفة...
ومن منا لم تحلق في مخيلته فكرة الهجرة ولو لمرة واحدة؟ بالذات ما يخيم علينا في مجتمعاتنا الشرقية من سحبٍ ثقيلةٍ تحمل مطرًا حامضيًا سامًا يستحضر الكثير منا ...
أن يلم أغراضه ليهاجر...
لكن من يهاجر ليبقى كما هو لا جدوى من نسج أحلام تنويرية تنتظره في مجتمعة ...فلا داعي أن يسجل في سجل المهاجرين...
... أصبح العالم اليوم قرية صغيرة في قبضة اليد يدور بين أصابعنا كوكب الأرض بشبكاته الاجتماعية العالمية الذي لا يكلفُ جهدًا أو أموالًا ..
لكنا ربما لم نهاجر حقًا! لا يزال يهطل المطر الحامضي علينا لان قطراته تبخّرت من فوق مستنقعاتنا!
الغربة الحقيقة والاغتراب هو فكري وعقائدي... لا أحب أن أوهم نفسي بالقناعة والرضا غير الكامل
لكن هذا الرضا هو مطر شباطي يهطل ببطء ويتغلغل في الارض لتجدد ريعانها في دورات الطبيعة القادمة.
ربما حقاً لو نهاجر بأفكارنا ونضيء هذا العالم ....
( باقة الغربية )
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com