يفتتَح الكاتب سُهيل كيوان روايته الجميلة "بلد المَنحوس" بالوصف الدَّقيق لمَشَاهد مُتعاقبة لمدينة عكا بسلاسة، وبجماليَّة ممتعة دون أن يرهق القارئ بالتفاصيل حتى لّتخالَهُ للحظةٍ أنَّه ابن المدينة، تربَّى في أحيائِها ويعرفُ خباياها وتفاصيل حياتِها، فيصف "المعارك الحمائلية "الطوشة" بين عائلة الزيدان وعائلة الافندي "وهو يرسم أمامنا شريطًا سينمائيًا أو لوحة فنية تتشكل فيها كل التَّفاصيل الدَّقيقة، ومن خِلالها يصف الرَّبابة ومُكوِّناتها التي تَدل على سِعة اطِّلاع الكاتب على الآلات الموسيقية والحياة الفنية في المدينة " الرَّبابة ذات الوتر الواحد المصنوع من شعر الخيل على مجسَّم مستطيل ملفوف بجلد غزال "ليروي على أنغامها قصَّة وضحى الصَّفورية وحمد الطبراني"ص"9"
وينهيها بالذَّكاء الفطري عند الأهالي، فيحدثنا قصَّة مُختار نَحِف الَّذي ذبح ثورهُ الذي خرَّب محاصيل الناس الزراعية ليقطّع دابر الاعتداءات على الأرض وليفرض رأيه وكلمته على كلِّ من يتبع له
الدُّخول بوَعي وفهم عَميق لحياة المُجتمع والتعرّف على الحياة الاجتماعية والثَّقافية للمُجتمع المَدني العكّي "عُمَّال زراعيين "قَطَاريز" وَفدوا الى عَكا من قُراهم بعدما باتوا عاجزين عن العيش في ظروف ظُلمِ وظَلام الافندية ومطاردة الاغاوات لأصحاب الأراضي واستغلالهم للعمال والقطاريز بلا رحمة، فهربوا من الأرياف الى المدينة خلاصًا من أعمال الأرض الشاقة التي تحوَّلت الى عبودية مقابل رغيفٍ حافٍ من طحين الشَّعير
أقاموا لهم أكواخًا من التَّنك ثم من الحجارة والقصب والشَّعر والاخشاب" ص"33"
ويدلّنا الكاتب على المِهَن السَّائدة في ذلك الزَّمن، مثل "شد الكراسي والحصر"
" تصنيع النايات من القَصَب" ينصبان الافخاخ للاسماك، والكمائن للسرطانات " ص 34
يبرع سهيل كيوان في وصف الآلات الموسيقية السائدة في ذلك العصر مثل العود والناي والربابة، والقانون " آلة وترية منذُ السومريون، شكلها الحالي شبهُ منحرف، من تصميم الفيلسوف والطَّبيب، أبو نصر محمد بن محمد بن اوزلغ بن طرخان الفارابي، وتغطي كلَّ مساحات الموسيقى الشرقية لها ثمانيةً وسبعون وترًا" "ص119"
ووصف دقيق لأنواع الألحان وطبقات الصَّوت والذائقة الفنّية حتى وكأنك تخال الكاتب موسيقارًا يعرف كل ما ابتدعته يد الانسان من آلات وما خلَّفه من ألحان في ذلك الزمان
ويصف متعة الفنان" نشوته أن يرى نفحاته تشع من وجوههم ومن تنهيد اتهم اعجابا
" ص 35
وحتى وصفٌ للعلاقة الفنيَّة والثقافيَّة مع الدولة المصرية، والشعب المصري، وخبر زيارة فريد الأطرش الى عكا، وإقامة حفلة في سينما البُرج مع تحية كاريوكا، والتَّحضيرات للزيارة
وفي نهاية المشهد يلخِّص الوضع بجملة واحدة "ما هي خسارة العود والممتلكات أمام خسارة الكرامات والأرواح؟!" ص 119
ويدخل الكاتب في قضايا الزَّواج والعلاقات الأُسرية وسمعة المَرأة حتى ولو كانت بلا مبرر، كما حدث لجَمَلات التي تزوَّجت من الفقير المُعدم رِبحي الفنان بطبيعته او عازف المِزمار، والذي تدخَّل في قصَّة زواجهم ابن عمِّها كي يتخلَّص من عارِها ومن سُمعتها التي أصبحت على كلِّ لسان
ينتقل الكاتب بشكل مفاجئ بعد أن اطمان القارئ لروايته العكَّاويَّة الأصيلة، وهو جاهز لاستقبال كل الأحداث، بل ويطلب المزيد، وإذا به يرسل القارئ دون سابق إنذار الى وارسو، ليعرِّفنا على عائلة يهودية بولونية، تعيش واقعًا آخر تصبو فيه للرحيل الى بلستينا، نتيجة واقعٍ سياسيٍ متدهور
هل هذا ليزيد الرواية تشويقًا أم يريد أن يفتح مسارًا آخر للرواية؟ انه يصفُها وصفًا دقيقًا كما يصِف حارات وأجواء عكا وبكلِّ التَّفاصيل، يتحدث عن بولونيا وأوضاع اليهود فيها بنفس سِعة الاطلاع، وكأنَّه ينسج روايته هناك، وسريعًا، نكتشف أننا أمام كاتب مثقف واسع الاطلاع، متمكّن من مادته ومن الواقع الذي يعيشه أبطال روايته، بل ويتتبع مسار حياتهم بأدق التفاصيل
ويتساءل القارئ، هل يبحث الكاتب عن مبررات هجرة اليهود الى فلسطين؟ هل يريد أن يحدثنا عن الجانب الإنساني والمعاناة التي لقيها اليهود في أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية ممَّا حدا بهم الى التفكير بفلسطين؟ أم كل هذا الشرح هو استعراض وشرح لواقع تاريخي حدث فعلًا؟ اننا بشوق الى تفاصيل الرواية، الى معرفة مصير هذه العائلات التي تبحث عن الأمن والأمان قبل أن تبحث عن وطن والأصح ملجأ لها
وعلى الفور يُدخِل الكاتب شخصيات روايته وفي مقدمتهم بن غوريون أو يوسف غرين كما يسميه في موضوع اللاسامية في أوروبا وهجرة اليهود الى فلسطين، ويلخِّصها بجملة لبن غوريون يردُّ فيها على رافضي الهجرة بالقول: "الحل هو الهجرة الى بلشتينا، نحقق فيها حُلم البيت الآمن كي يكون بإمكان كلّ يهودي ان يلجأ اليه إذا ما شعر بالخطر
" ص "19 "، هذا بالإضافة الى الموقف الماركسي المناقض الذّي عبَّر عنه سُهيل كيوان من خلال شخصيَّة ابراهام خيطرمان الماركسي الذي كان يُؤمن بالايدش كلغة ومُجتمع اشتراكي ماركسي، يندمج فيه اليهود في أوطانهم مع حفظ خصوصيتهم الثقافية " ص 23
وبالمُقابل وبنفَس واحد يطرح صورة العربي، بأسلوب لاذع ومعبِّر عن سذاجة العرب على لسان بن غوريون نفسه "العرب قوم في غاية السذاجة والبدائية " ص 20
ويتحدث الكاتب بإسهاب عن طبيعة التفكير عند اليهود، وعن ممارساتهم العنصريَّة وفكرهم العنيف الذي حملوه مع خوفهم وعاهاتهم المختلفة لينقلوه الى فلسطين، وليس ادل على ذلك أكثر من قصة الختان وقصَّة راتشينسكي وابن خالته ايزاك، الذي حمل عاهاته التي رافقته من أوروبا وبقيت مشاهد عملية الختان من أحداث الرواية الهامة وأثرها السلبي على الأحداث، وكيف أنقذته من المَوت على يد النازيين في أوروبا، في حين كانت مشكلة عويصة رافقته في فلسطين وعليه أن يتخلص منها، فكان مستعدًا لعمل أي شيء ليتخلص من العملية وكأنه يتخلص من عاره أو من ماضيه
وقد برع اديبنا في وصف المشهد بشكل مثير وجدير بالتفكر والوقوف عنده بشكل جدي رغم رمزيته
ومن الشواهد على تصرفات هؤلاء القادمين الجدد نشهد، عمليات الاغتصاب التي رافقت احتلال المدينة، كما حدث مع ايزاك واوريا ويواب وغيره والخياطة زهرة التي أخفت الفضيحة رغم قَرفها "راحت تنظر الى القميص بكراهية شديدة خافت أن تعترض أو ترفض، تشعر باختناق من رائحة القميص ومن لونه، كأنَّ أصابع غليظة تمتد الى حُنجرتها، تمتلئ خياشيمها برائحةٍ كريهةٍ بأنفاسٍ منتنة بالتبغ والكحول"
ولم تعترف بفضيحتها حتى لبعثة عصبة الأمم المتحدة لا هي ولا غيرها وكان موقفهم "غُلب وسُترة ولا غُلب وفَضيحة" ص 137
ويتابع الكاتب قصة راتشينسكي الغير مختون، والذي تنازل عن ابن وبنات خالته عندما قتله البولونيين بوحشية، وعن تخليه عن حبيبته ريبيكا وتآمره وعمله كدليل لهم للتعرف على بيوت اليهود، وحتى انتحال اسم ابن خالته ايزاك، وبالتالي عندما وصل الى فلسطين كان يدَّعي المبدئية الصهيونية والموقف الغير مُساوم اتجاه العرب في عكا، وهنا أيضًا يحاول سهيل كيوان أن يقدِّم لنا صورة حقيقية عن طبيعة النَّاس الذين جاءوا ليسيطروا على فلسطين، فقد تعلَّم العُنف والجريمة وجاء ليطبِّقها هنا حيث وصَفه "اشترك في القتال في يافا وبرزت قدراته القتالية وصار الجميع ينظر اليه كقائد ناجح له مستقبل عسكري كبير" ص 110
وتلاحقه قضية الختان حتى النِّهاية حين يقترح على رسمي المخلوف أن يعلِّم زوجته فضَّة المُمرضة مهنة الخِتان "الطُّهو" كي تقوم هي بنفسها بمعالجة ايزاك، هي السخرية الهادفة وقضية محورية يطرحها الكاتب بشكل هزلي ولكنها قضية في غاية العمق"الختان الذي أنقذه في أوروبا يؤرِّق مضجعه ويعقّد حياته في فلسطين، والأنكى من ذلك هو علاجه على يدي فلسطينية قاموا بتعليمها" قال ايزاك وعيناه تدور في محجريهما ستكون فَضَّة اول إمرأة تمارس مهنة ختان الذكور في التاريخ سيذكرأنني صانع المُعجزات في الوسط العربي
"ص 164"
هل يريد أن يقول لنا الكاتب أنّ الإستعمار يحفر قبره بيديه؟
ويلخّص الكاتب المشهد بجملة واحدة معبرة عن كل ما جرى لعكا وفلسطين والشمال، أشعر وأنا اقرأها بمرارة، وحزن عميق، انها فعلًا "بلد المنحوس" حين يقول: "وضع تحت قدميه حقيبة جلديَّة، تحوي خرائط ووثائق تتعلَّق بمنطقة الشّمال، وقف فوق الحقيبة وهي تنتظر، شعر بأنها اللَّحظة الاجمل والأكثر بهجة وعظمة في حياته ، عكا المدينة العظيمة تحت قدميه ، وبات شيبع التي اشتهاها منذ اكثر من عامين ها هي تحته" ص"86 " أليست الحقيبة وبداخلها الخرائط هي رمز للسَّيطرة المُطلقة، أليست بات شيبع التي يؤكد لنا سهيل أنّها فلسطينية "تصاباريت" ترمز الى الاستيلاء على فلسطين، أليس اغتصاب الخياطة "زهرة" هو عملية اغتصاب همجية لشعب، أليس هذا ما أراد وصفه؟ بقدر ما كان دقيقًا بالوصف بقدر ما المني وأوجعني وصفه
لم ينس الكاتب العملاء والمتعاونين في روايته وها هو يصف تفاهة تفكير"مخلوف أفندي" وضحالة تفكيره وأنانيته من أجل الحصول على امتيازات، وهو ينقل رأيه وموقفه لابنه "رسمي مخلوف أفندي" بتسخيف وتحقير العمل الوطني والثوري مهما علا شانها" علاقتي بالمندوب السامي جعلتني أحصل على تلفون لأنني تمسكت بلبس الطربوش ورفضت طلب زعران القسام بأن أضع حَطَّة وعقالًا على رأسي
هي في كل الأحوال (الثورة) فاشلة، هم قتلوا بعضهم البعض وصاروا يقطَعون الطُّرق، قتلوا أبرياء كثيرين مثل الدكتور أنور شقير واتَّهموه بالخيانة من نحن حتى نواجه الانجليز؟ كم شلعوط مزلبطين بدهن يحاربوا امبراطورية ما بتغيب الشمس عنه" ص 125
ويغوص سهيل في عالم وتاريخ المدينة، في فترة من أحلك اللحظات التي مرت بها في تاريخها، ليصل الى فترة الحكم العسكري وما واكبه من إهانات وتحقير لمن بقي من السكان بعد النكبة، وكيف تصرف معه من كانوا بالأمس القريب تحت نير وبراثن النازية في أوروبا، كانوا اذلَّاء جُبناء فجاءوا ليكونوا أسياد وحُكام، ويخاطب أحد الموظفين الناس التي تتزاحم على الدور يصفهم "ارجعوا الى الخلف يا بهائم، ليش ورقتك مُجعلَكَة يا حمار، ألا تستحمون، ألم يصلكم اختراع اسمه الصابون، من أي طينة منحطة صنعتم" ص 129
وهناك مشاهد أخرى يطلعنا عليها الكاتب، كالدعارة في الأماكن الخالية أو البعيدة من المدينة، أو مشهد الناس المثليين كما حدث للدكتور يونثان، وتصرفاته الغريبة، كما لاحظها قدورة، وبلا شك فإن الكاتب من خلال هذه المشاهد الغريبة عن حياة البلد المنحوس، غريبة عن عادات وتقاليد هذا البلد وغريبة عن الإرث الحضاري والثقافة الشرقية العميقة التي حاول الكاتب أن يوصلها الينا من خلال الموسيقى والغناء والفن الذي ميزها وأعطاها صورة جميلة لمدينة عربية أصيلة تعيش في أمان واطمئنان الى أن جاء أمثال هؤلاء ليقتلعوا كل جميل فيها ويذروه في الهواء
ويؤكد ذلك النهاية الغريبة التي وصلها ايزاك أو راتشنسكي الذي انتحل اسم ايزاك في بولونيا لتكتشفه قريبته التي كانت خطيبته أو حبيبته في المشفى، وبذلك يسدل الستار على انتهازيين بلا مبدأ وبلا ضمير همّهم الوحيد هو أنفسهم وذاتهم وليحترق العالم
ويبقى أمامنا سؤال كبير، نقف أمامه حائرين، لماذا بدأ الكاتب روايته بوصف عكا وسكانها وطبيعة الحياة فيها وانهاها بوضع مأساوي ليهودي بولندي بائس اقترف كل الموبقات بحق شعبنا وحتى بحق أهله؟ هل يؤشر الى أنّ هذه هي نهاية الظالم أم هي مجرد نهاية طبيعية للبشر؟ ثم لماذا لم يوحي لنا ولو ببصيص أمل بمستقبل أو نهاية قد يكون لها أثر إيجابي على المتلقي؟
لا شك أنّ الكاتب قد رسم لنا لوحة فنية راقية جدًا تعيش خلالها في عالم من الغرائب والتناقضات كما هي القضية الفلسطينية وتناقضاتها، هذه اللوحة تجعلك تعيش الحياة في تلك السنوات الكئيبة من عمر المدينة، الغائرة في عمق تاريخ الشَّعب المنكوب، ليرسم لك لحظاتها الأخيرة ولتعيشها بكل التفاصيل الممكنة
رواية تستحق القراءة والتمتع بمشاهدها الراقية بكل التفاصيل
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب
لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab
com