راضي د. شحادة في مقاله:
يستطيع الممثل الفلسطيني على سبيل المثال أن يلعب، ويَتَنَطْوَط على حبال الشُّهرة ويتدبَّر أموره الشُّهرويّة والمادية، وسيجد نفسه في مرحلة معينة قد تهاوى من أعالي قمة حبال الشهرة والتدبُّر المادي، ولات ساعة مندم
التعامل مع دولتك ونظامك العربي قد يكون مبرَّرا من قِبَل بعض الفنانين، لكونهم موجودين في دولتهم ووطنهم، مع أنّ الفنان الحقيقي بشكل عام هو إنسان توعوي، نقدي، ثوريّ ومعارض من أجل الأفضل، ومن أجل العدالة والقضايا الثورية.
ولكنّ الأمر بالنسبة لنا نحن فلسطينيي ال48 يختلف جذريًا لكون مشكلتنا الوطنية التحررية لم تُحلّ بعد، فَوَصلْنا الى وضع يجد فيه بعض الفنانين أنفسهم في مأزقِ كيفية اختيارهم لأدوارهم ما بين انتمائهم الـمُواطنيّ والوطني، فيختلط أمرهم بين المصلحة الشخصية ومصلحة القضية العامة التي تجمعهم مع شعبهم.
يستطيع الممثل الفلسطيني على سبيل المثال أن يلعب، ويَتَنَطْوَط على حبال الشُّهرة ويتدبَّر أموره الشُّهرويّة والمادية، وسيجد نفسه في مرحلة معينة قد تهاوى من أعالي قمة حبال الشهرة والتدبُّر المادي، ولات ساعة مندم.
لا بدّ من الاعتراف بأنّه يوجد ثمن للطمع في الشهرة، والشعور بالضعف أمام الحاجة المادية او المصلحة المادية، وهو ثمن يشكّل سلاحًا ذا حدّين. قد يقول الفنان الطامح الى الشهرة وجني رزقه المادّي:
"متطلبات الحياة الماديّة صعبة، وهذه هي مهنتي التي أُتقِنُها وأستطيع ان أعتاش منها، فإذا رفضت قبول الفرص المتاحة لي، فَمَن الذي سيضمن لي لقمة عيشي؟".
قد يجد نفسه من أجل ذلك عاذرًا نفسه لمـُسايَرة النُّظُم الحاكمة، والاحتلال، وانتهاج الرقص على جميع الحبال، مُسلَّحًا بتبريراته "المنطقية؟"- حسب منطقه- التي تجعله يتصرف هكذا، محاولًا إرضاء "زبائنه" من "المعجبين"، الى حين تسمح له الظروف الوصول الى قمة شهرته، فإذا كان ممثلًا فهو يتحيّن فرصة استدعائه لأداء دوره من أصحاب النفوذ الذين سيستغلونه على أحسن وجه من أجل تحقيق المشروع المطروح من قِبَل الـمُنتِج (صاحب المال) والـمُخرج، وبدونهما لا يستطيع أن يحقّق الممثّل ذاته على انفراد.
وأما ما يخصّ الممثل بشكل خاص وبشكل عام فهو عبدٌ لسُلطة الـمُنتِج والـمُخرج، وبالتالي فهو عبدٌ لسوق العَرض والطَّلب إلّا فيما ندر.
من الفنانين من يدرك جيّدًا ومُسبقًا أنّ المشروع الـمُقتَرَح عليه هو ضد قناعاته الوطنية، ولكنّه لا يرفضه طمعًا في مُغريات الشُّهرة والمال، وعندما ينجز مهمّته ويستمتع ببعض المال وبعض الشهرة يصرّح قائلا من باب رفع العَتَب: " أنا آسف لأنني شاركت في هكذا مشروع، ولم أكن أعلم أنّ المنتج والمخرج أرادا أن يوصلاني الى هذه النتيجة، لأنّهما قادا اللعبة الى مكان لم أكن أتوقعه".
ومنهم من يقع في مطبّ عمل او عملين إبداعيين عن نيّة صافية، فيجد نفسه مشاركًا ضد قناعاته المبدئية، فيتراجع ويعتبر ذلك درسًا للمستقبل لكي يكون أكثر حذرًا.
ومنهم، وهذه الفئة هي الأخطر، يَدّعي قائلًا:
"الحياة عرض وطلب، ومن يعرض عليّ عرضًا ما، أقبله وأُلبّي الطلب، فهذه مهنتي وهي مصدر رزقي، وهذه هي المهنة التي أعتبر نفسي محترفًا في تأديتها وناجحًا فيها، ولولا ذلك لما طَلب مني أصحاب العرض أن ألبّي طلبهم".
إنه يعتبر مشاركته مصلحة مشتركة للطرفين. وهكذا فهو بشكل عام يقبل المشاركة في معظم الأعمال او في جميعها، والتي تضمن له ممارسة تَخَصُّصِه الإبداعي والحِرَفي، بغضّ النظر عمّا تَحمِلُه هذه الأعمال من تناقضٍ مع قضيته الوطنية التي لم تُحلّ بعد، وليس كما هو الحال لدى الفنانين الذين يعيشون تحت راية دولهم وأوطانهم المستقلة، إلّا إذا كان مقتنعًا بإسرائيليته كلّيا ومتنازلا عن فلسطينيته أو متغاضيا عنها.
"هذا ما تعلّمته وما تخصّصتُ فيه وهذا ما أعرفه وأجيد ممارسته وهذا هو مجال عملي، وما دام أحد أهداف نوعية عملي هو التقدم نحو الشهرة والنجومية، فإنني أسعى جاهدًا لتحقيق ذلك، وقد يجعلني ذلك أتنازل عن المـُسلَّمات الوطنية والهُويَّاتيَّة والتحرُّرية. ما دمتُ فنانًا لا أستطيع أن أحلّ وأربط في القضايا المصيرية، فالأحرى بي أن أقوم بممارسة مجال معرفتي بشكل شخصي، فالقضايا المصيرية أتركها للسياسيين وللوطنيين وللشعب. وما دام الفن أضعف من أن يمتلك من القوة ما يجعله قادرًا على المساهمة في حل القضايا السياسية والوطنية والمادية والآيديولوجية والدينية، فالأجدر بي أن أمارس مهنتي بِحِرَفِيَّة، فأتقاضى مقابل أتعابي بناء على اتفاقيّة العرض والطلب".
يجد نفسه، وعن قناعة، منتهجًا فلسفة: "كل واحد مُشْطه بذقنه"، فإذا لم أصارع من أجل مصلحتي الشخصية والحصول على لقمة عيشي، فلن يكون عونًا لي أحدٌ سواي. المصلحة الشخصية آمنُ وأضمن، والمصلحة العامة، وبخاصة المصلحة الوطنية بشكل عام، تشكّل خطرًا وعائقًا دون مصلحتي". وأسهل حلّ للخروج من هذا المأزق هو انتهاجه فلسفة: "أنا فنان، وهذه مهنتي، وأريد أن أعيش، ولا أريد أن أتدخّل في السياسة". وإذا تدخّل في السياسة فإنّه يفصّلها على مذاقه مهما كانت معادية لقضيته الوطنية.
المصيبة الكبرى تكمن في أنّ الفنان "المـَصْلَحْجِي" الذي يصبح نجمًا مشهورًا بدعم مقصود من قبل الـمُنتج والـمُخرج، قد يصبح نموذجًا يُحتذى به من قبل الشُّبّان الذين لم ينضجوا فكريًا ووطنيًا، فيتمثّلون به ويحلمون بانتهاج طريقه ويسعون لتقليده والسّير على خطاه، فيتحوّل هذا التصرف الى نهج مقبول ومُغْرٍ.
إذن، لا يوجد قاعدة تقول أن الفنان المتخصص في مجاله، وهذا ينطبق على أي إنسان متخصص في مجاله، ويمتلك أرقى الشهادات الجامعية وأسمى أنواع الإبداع والمواهب، هو بالضرورة إنسان وطني او تقدمي او تحرّري، وهذا يحدِّد الفرق بين العارف المتعلم من جهة، وبين المثقف التحرري والثوري من جهة أخرى. إذن، ليس بالضرورة أن المشتغلين في مجال الإبداع، وبخاصة في وضعنا المرهون بقضيتنا الوطنية والسياسية، هم أناس إيجابيون أو تقدّميون أو وطنيون، وأنّ تفانيهم في إبداعهم هو إيجابيّ، مهما بلغوا من السُّموّ والشهرة في حِرَفيّتهم وأدائهم، وليس من العدل والإنصاف اعتبارهم مساهمين في دعم قضيتهم العادلة، بل على العكس فإن مجهودهم النابع عن مصلحة شخصية يصبّ في مصلحة من يسعى لمعاداة قضيتهم. قد يبدو الأمر تعميمًا ولكنّنا في وضعنا كفلسطينيين نشعر بخصوصية هذا التعميم.
ولأنّ قضيتنا الوطنية لم تُحلّ بعد، فهل يحقّ للمبدع و"المثقف!؟" أن ينتهج رفاهية حرية الاختيار المطلق والحُرّ في جميع مشاركاته، وبخاصة منها التي تعادي قضايانا الوطنية وتتناقض معها، او على الأقل لديه شكّ مُبطّن في نوايا أصحاب الإنتاجات التي يودّ المشاركة فيها؟
هل تستحق الشهرة اللهاث خلفها، مهما كان الثمن الذي يدفعه الفنان مقابل الثمن المادي والشُّهرَويّ الذي يتقاضاه؟
هل اللهاث خلف الأعمال الفنية التجارية وبضمنها الدعايات التجارية المرتبطة بمصلحة المـُنتِج التجاري الذي "يستعمل" الفنان كإنسان محترف في مجاله، مُستغِلًّا شهرتَه في خدمة شهرة الشركة التجارية والسياسية وزيادة أرباحها المادية والسياسية، تصب في مصلحة الفنان بقدر ما تصب في جيوب المنتجين؟ مهما حصل من مَبالِغ مادية، فإنها تعتبر فُتاتًا مقارنة بالأرباح الضخمة الشُّهرَويَّة والمادية لهؤلاء المنتجين.
هل لدينا ما يكفي من الممثلين الذين يُحتذى بهم كنماذج تتحلى بتوازنها فيما يخص العرض والطلب بما يتناسب مع مبادئهم الوطنية من جهة، ومصالحهم الإبداعية والشخصية من جهة أخرى؟
وأخيرًا، هل هذه التساؤلات والانشغالات المبدئية تنطبق أيضا على الممثلين والفنانين العرب بشكل عام؟ وهل يحق لنا القول بأنّه كما هي قضايانا التحررية والوطنية لم تُحل بعد، فهل القضايا ذاتها لدى إخوتنا العرب من المحيط الى الخليج لم تُحلّ بعد؟ يبدو أنّ حل قضيتنا الفلسطينية مرهون بحل قضايانا العربية، والعكس صحيح، فكلّنا في الهمّ شرق.
وعجبي عمّا نحن فيه!
مجرد تساؤلات مثيرة للتفكير والنقاش والمشاركة!
*راضي د. شحادة- مسرحيّ وكاتب فلسطيني.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com