من يتابع المشهد السياسي والثقافي والإقتصادي، للمنطقة العربية في هذه المرحلة من التاريخ، يلحظ بشكل واضح، عُمق الأزمات التي تتراكم دون حل، أو يتم القفز فوقها، وهي تُشكل حالة بالغة الخطورة، من الممكن جدا أن تتحول إلى خطر وجودي حقيقي، دون مبالغة، أو الإرتكاز على خيال مؤامراتي.
في سياق التاريخ الإنساني، كان لقيام أو زوال وإضمحلال ، الأمم والشعوب والإمبراطوريات والدول، عوامل إقتصادية وإجتماعية وسياسية موضوعية، يقوم على توثيقها وشرحها المشتغلون بالدراسات التاريخية.
من الامثلة الحية على حالة درامية، لهذا الإنحسار التاريخي لأمة ، ما حصل في أمريكا، مع الهنود " السكان الأصليون "، الذين تعرضوا على مدى خمسمائة عام للإبادة المنهجية والفتك، وإقتلاعهم من جذورهم وأرضهم، وتغييبهم من الذاكرة الإنسانية وبالملايين (بعض المراجع تتحدث عن 110 مليون) ، وتم استبدالهم بشعب آخر، لغة أخرى، وبدأ هناك تاريخ جديد ، لأمة جديدة تكونت مع الزمن.
شعوب قارة بأكملها ، أكثر من أربعمائة قبيلة كبيرة (أو شعب)، تم إبادتها بوسائل وحشية ، لم يتبقى منهم سوى عدد قليل، كشاهد حي على هذه الإبادة الممنهجة.
منذ فجر التاريخ، كان صراع الطبقات التي تقود الشعوب والأمم والحروب، دوافعها إقتصادية بحتة ودينية إلغائية وثقافية عنصرية. ودفعت الشعوب ثمن هذه الصراعات .
وفي ظل غياب الإرادة الإنسانية الحقيقية، وعجزها - ولأسباب مختلفة - عن وضع حد لهذه السياسات العدوانية ، وإيجاد صيغة إنسانية سامية ، للتعايش والتسامح، وتحقيق الحرية والعدالة، يجب النظر( وللأسف) بواقعية شديدة ، لديناميكيات الحركة التاريخية الإنسانية، أو التدافع الإنساني، وأخذ التحديات على محمل الجد، وإيجاد روافع دفاعية للتصدي لها، والتعامل معها، خصوصا في حالة الضعف والتراجع الحضاري ، وغياب القوة الرادعة، الكفيلة بحماية الوجود الإنساني.
تقف منطقتنا العربية ، أمام تحديات هي الأكبر في تاريخها، يمكن الإشارة إليها بشكل مختصر:
أولا: ما زال العالم العربي، لم يتخلص من الإستعمار الكلاسيكي، ولا تبعاته وإرتباطاته، ولم يُنجز دولته القومية الحديثة، التي يجب أن تقوم على مباديء الحرية والعدالة الإجتماعية، ويكون عُمقها ورسالتها إنسانية. وأغلب الأنظمة الحاكمة لا يمكن أن تقفز فوق ظلها ، وتقدم إصلاحات أو تنمية حقيقية، وإلا فقدت سُلطتها ومصالحها ومبررات وجودها.
ثانيا: ما زالت مفاهيم السيادة الوطنية والإستقلال، غائبة عن واقع العالم العربي بشكل عام، وما زالت فكرة " الإستعمار الداخلي " هي من يحكم هذا الواقع.
وهي فكرة من موروثات الإدارة الإستعمارية البريطانية، أبدعها " توماس مكولاي" وتبناها المؤتمر الإمبراطوري في عام 1913 ، ثم 1923 ، وتقوم على إيجاد طبقة من الوكلاء المحليين، يقومون بتحقيق مصالح الإمبراطورية، دون الحاجة لإستخدام القوة العسكرية المباشرة ، ومورست في كثير من المستعمرات البريطانية، منها الهند مثلا.
ويشهد عالمنا العربي منذ سنوات طويلة حركة نشطة تُنتج هذه الطبقة ، من السياسيين، رجال الأعمال، المثقفين ، الإعلاميين ، وحتى رجال الدين. وهو ما يسمى في الأدبيات السياسية " وكلاء الإستعمار" و " حاشية الحاكم والسلطان".
ثالثا: إزدياد حالة الإغتراب بين مكونات شعوب المنطقة ، في ظل غياب هوية قومية سياسية وثقافية جامعة وجذابة، مما يدفع هذه المكونات، إما للبحث عن هويتها القديمة البدائية ، أو التنصل من " العروبة " و " العربي "، نتيجة لأسباب ثقافية وحضارية، وفشل عالمنا العربي في التعامل مع هذه المكونات وتلمس إحتياجاتها ومطالبها.
وللأسف كانت النتيجة هي تنامي الدعوات الطائفية والإقليمية والعرقية، أو الهجرة لبعضها إلى دول أخرى. يخسر عالمنا العربي منذ سنوات هذه " الفسيفساء الحضارية " و " ملح الأرض "، خصوصا من المسيحيين ومن يعتقدون أنهم ليسوا بعرب، أو من هم من أصول غير عربية ، وعاشوا تاريخيا في وطنهم الطبيعي في منطقتنا.
إن خسارتنا كبيرة جدا في المشرق ، لو سمحنا بأن تستمر هذه الحالة ، دون إحتضان واعي وإنساني لكل هذ المكونات وتفهم مخاوفها ونفسيتها ، وتطلعاتها السياسية والإجتماعية والثقافية. والإحصائيات الأخيرة، لا تُبشر بالخير. مع العلم أن هناك دوائر محددة تعمل عليها منذ سنوات طويلة.
لا يخفي على أحد، أن المجتمعات العربية ، هي مجتمعات شابة، ويعاني الكثير منها ، من أزمة هوية وإنتماء، وفقدان للأمل والثقة بالحكومات، وهاجر آلاف منها هجرة قصرية بفعل الحروب والصراعات.
وفي ظل غياب سياسة تعليمية متطورة لإعداد الطفل، من المرشح أن تتعمق هذه الأزمة. ولا يوجد أمة على وجه الأرض- خصوصا الدول القومية الأوروبية الغربية والآسيوية الصناعية - حققت نهضتها بمعزل عن وضع الأساس السليم للمجتمع، تربويا وعلميا، فالإنسان هو الثروة الحقيقية لأي تنمية أو تقدم.
رابعا: تتعمق الأزمات الإقتصادية والصعوبات المعيشية، والتفاوت الطبقي، منذ سنوات وبشكل غير مسبوق، وتتعاظم النقمة الشعبية على السُلطة والحُكم، في معظم الدول العربية، ولم تعد سياسات الإستبداد، أو الإحتواء، أو الإلتفاف عليها مقبولة من أحد، لا سيما أن هناك من يغذيها ويستفيد منها.
ومع التغيرات التي تجري على النظام العالمي ، وسرعة إنتشار الإنتاج القائم على الثورة الصناعية الرابعة، سيكون حجم التحدي أكبر بكثير مما يُمكن توقعه. ولعل نظرة سريعة على ما تشهده الدول العربية من المحيط للخليج، وتنامي التنافس الإقتصادي على المنطقة، من محيط الخليج العربي ( النفط والغاز)، إلى محيط البحر الاحمر( القواعد العسكرية، طرق التجارة)، وصولا إلى محيط البحر المتوسط ( النفط والغاز)، تؤكد هذا التشخيص.
وليست المنطقة بمنأى عن النشاطات الإقتصادية للإقتصاديات الكبرى، والتحالفات الإقتصادية التي تتبلور بشكل ملحوظ، وسعي المركز ( الأمريكي) لحماية مركزه الإمبراطوري. وفي ظل غياب قاعدة إنتاج إقتصادية قوية، تعانق هذه الدول الريح.
خامسا: ما زال الخطر الوجودي، الذي تُمثله دولة الإحتلال الإسرائيلي، هو من أكبر التحديات، وبالرغم من المقاومة المشروعة، وتنامي قوتها، إلا أن هذا الخطر ما يزال جاثما على قلب المنطقة، ويسعى لتحقيق مكاسب إستراتيجية جديدة، ويُحقق نجاحات دبلوماسية وإقتصادية. وما زال يشكل التهديد الأكبر للشعب العربي الفلسطيني، وللأردن ، ودول الطوق. ولن يتنازل عن فكر " الكنعنة " ، التطهير العرقي، الترحيل الجماعي، وفرض الوجود والتوسع بالقوة العسكرية.
سادسا: يُمثل التنوع الديني والثقافي، وتحديدا اللغة العربية، العمود الفقري للمنطقة، ولكنه يتعرض لحملات من الطمس والتشويه والإستبدال. إن ثورة المعلومات والإتصالات، على أهميتها الحضارية للبشرية، حملت معها أيضا سلبياتها، وهل يمتلك عالمنا العربي، أن يطور آليات للتخفيف من سلبيات الفكر والقيم والثقافة العولمية ، التي تغزو كل يوم عُمق هويتنا وخصوصيتنا ، او ما تبقى منها؟. يجب الإهتمام أكثر بالحفاظ على اللغة العربية!.
ليس المطلوب أن نعيش خارج العصر أو على هامش تطور البشرية ، ولكن أن نعي أن هذه القيم تقدم وهما وتبعية لا محدودة ، تحت شعارات مثل : الحرية والفردية، وفي جوهرها تهدف لأن تتحول الشعوب لمجرد مستهلك عولمي للبضائع، تتغير أولوياته وإحتياجاته ونمط تفكيره وحياته المجتمعية والفردية، حسب منطق السوق، الربح والخساة ، لا أكثر.
سابعا: من أكبر التحديات التي يُمكن أن تهدد كل المجتمعات في عالمنا العربي، هو تراجع دور العائلة، المكون الأساسي لنمط الحياة الشرقية، وللأسف لا يوجد تشريعات أو برامج حقيقية، تدعم الترابط العائلي، وتحافظ عليه، ناهيك عن تأثير البطالة والهم المعيشي.
تقبل مجتماعاتنا العربية منذ سنوات، أن يكون للمرأة دورا إقتصاديا داعما ومكملا للإقتصاد المنزلي، ولكنها لم تفتح المجال بشكل واسع لحضور المرأة في الحياة الثقافية والسياسية، وهي تُهدر طاقة كبيرة في أمس الحاجة إليها.
ليس المطلوب أن تُشكل الروابط الأسرية ، أو العائلية، أو التجمعات العشائرية، البديل عن المواطنة مثلا أو الدور المؤسساتي الخدمي للدولة، ولكنها عوامل قوة لتماسك المجتمعات التي تواجه مثل هذا النوع من التحديات، وما زالت لم تحقق تقدما إقتصاديا وإجتماعيا. إن تفسخ العائلة أو الترابط العشائري، في ظل غياب دور الدولة ومؤسساتها ، يجعل المجتمعات أكثر هشاشة.
ثامنا: بالرغم من التعاطف الكبير ، مع حركات المقاومة، والقضية الفلسطينية، أو مع القوى السياسية والإجتماعية الساعية نحو التغيير، إلا أن حجم الإلتفاف الشعبي النشط على أرض الواقع، ما زال في أضعف حالاته، وما زال نخبويا.
تتحمل السُلطات القائمة المسؤولية في بقاء هذا الخوف من المشاركة السياسية ونتأجها، ولكن التجارب الحزبية بدورها ، ساهمت في وجود هذه الفجوة الكبيرة.
إن التحديات السياسية المستقبلية، تتطلب التنبه لأهمية أوسع مشاركة شعبية وجماهيرية وعلى أسس برامجية مدروسة، كدعائم للمشاريع الوطنية. هل يُعقل أن لا يزيد عدد أعضاء بعض الأحزاب التاريخية، والتي قدمت المئات من الشهداء والمعتقلين ، عن بعض العشرات هنا أو هناك، في أقاليم أو مناطق يوجد فيها عشرات أو مئات الآلاف؟.
تاسعا: ما زالت صراعات المحاور تقسم ظهر المنطقة العربية، بين مشروع تحرري، ومشروع طفيلي وظيفي، يمثل مصالح قلة قليلة في المجتمع. وبالإمكان تقوية محور التحرر عن طريق القوة الناعمة ، إضافة للمقاومة المشروعة.
هناك تقصير كبير في مجال العمل الإعلامي والثقافي والإقتصادي. ويعلمنا التاريخ وتجارب الشعوب، أهمية هذا الجانب. عالمنا يحكمه منطق " القوة "، وضمن الممكن، أن يكون هناك إستراتيجية لتطوير هذه القوة الناعمة، وبمبادرات شعبية.
عاشرا: إن إستمرار عدم الحضور الواضح، لمشروع حضاري عربي بديل، مؤسس على أنماط تفكير وسلوك جديدة، يؤخر أي طموح وطني أو قومي. لا يكفي التنظير في المؤتمرات والندوات والكتب بعيدا عن العمل الشعبي.
لا بد من إيجاد إطار سياسي موحد وكبير وشعبي، يقدم هذا المشروع لشعوب المنطقة، لُيحقق أكبر درجة ممكنة من التبني والدعم، والإلتفاف ، يتجاوز أخطاء الماضي بل وكوارثه، والكثير من الفشل على صعيد الممارسة، وأن يكون جوهره تعددي، قائم على القواسم المشتركة، ويرفع شعار الوحدة بمعنى الكلمة ، والحرية بمفهومها الواسع والإستقلال.
هناك تحديات كثيرة جدا ، ستواجهها المنطقة مستقبلا، فالقوة المقابلة تتحرك كالبلدوزر، وعجلاتها ليست من خشب، ومن يفشل في إعاقتها ، أو الوقوف بحسم في وجهها، أو على الأقل إدامة الصراع معها بشكل جديد، ستتجاوزه!.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com