التقينا صدفة في الشارع. تلميذ قديم وعزيز. يقرأ كثيرا، ولا يكاد يكتب. تحدّثنا أكثر من خمس دقائق على الواقف. "لماذا لا ندخل أحد المقاهي، إذا كان عندك وقت؟ لا يمكن إجراء نقاش جادّ في الشارع؛ على الواقف" قال لي الصديق القديم. استصوبت اقتراحه، فدخلنا مقهى قريبا. طلب الصديق القديم له فنجان إسبرسّو ثقيلا، وأخذت أنا فنجان قهوة عربيّة، وبدأنا النقاش.
بدأ الصديق حديثه، حتّى قبل استقرارنا في مقاعدنا، حول الطاولة. قال إنّ مواقفي اليوم تثير استغرابه: قرأتُ اسمك، ولم أكد أصدّق أنّك صاحب المقال. كيف تنشر آراءك هذه اليوم، وكنتَ في الصفّ تثور لأيّ خطأ في التصغير أو النسَب، كأنّما ارتكب التلميذ جريمة منكرة؟!
لم يبالغ الصديق في أيّ كلمة. وأنا نفسي لم تفاجئني صراحته، ولا نقده الصادق. بدأتُ بمقدّمة عامّة في الناس والحياة. ألا تعرف أنّ الإنسان الطبيعي يتغيّر موقفه بتغيّر موقعه، أجبتُه سائلا متحدّيا. في الصفّ كنتُ مطالَبا بتلقينكم القواعد تلك. لم يكن لكم بدّ من النجاح، وفي القواعد تلك أيضا. كنتُ أصرّ فعلا على حفظ تلك القواعد وتطبيقها بدقّة أيضا. هل كان بمقدوري تحفيظكم تلك القواعد، وإبداء رأيي الشخصي فيها، في الوقت ذاته؟ هل كنتم تحفظونها إذا قلتُ لكم إنّها أعباء تثقل ظهر المتعلّم، ولا حاجة إليها؟!
القواعد التي كنّا نعلّمها، ونرغم تلاميذنا على حفظها بدقّة، قلت للصديق ذاك، وضعوها قبل مئات السنين. هل في هذا العالم الواسع لغة حديثة واحدة، تحكمها قواعد وقوانين سنّها السلف قبل أكثر من ألف وخمس مئة سنة؟ ولماذا نذهب بأنظارنا إلى العالم الواسع، واصلت حديثي مع التلميذ القديم، هل يطبّق المعلّمون والطلّاب اليهود، في المدارس العبريّة، قواعد اللغة الكلاسيكيّة، في التوراة، على لغتهم الحديثة في هذه الأيّام؟!
في الجامعة، التقيتُ بطلّاب عرب ويهود كما تعرف. كلّ الطلّاب، اليهود والعرب، تعلّموا المادّة نفسها، والقواعد العربيّة نفسها طبعا. استغربتُ فعلا كيف يتقن الطالب اليهودي تشكيل النصوص، ولم يصرف في تعلّم القواعد ربع الوقت الذي صرفه طالبنا العربيّ! اكتشفتُ أنّ الطالب اليهودي تعلّم قواعد العربيّة بطريقة تختلف عن طريقتنا نحن في مدارسنا. يحفظون الظاهرة اللغويّة كما هي، ولا يبذلون المستحيل في سبيل تفسيرها، فيخترعون ما ليس في النصّ، في تفسير التشكيل في النصّ! هكذا تظهر في النصوص دائما، ولا ضرورة لتفسير المحلّ من الإعراب قسرا. تسمّى هذه أحيانا الطريقة التطوّريّة: هكذا ظهرت في اللغة، ولا ضرورة لتفسيرها، كأنّما كانت القواعد قبل اللغة!
أمّا نحن في العربيّة فنعلّم اللغة، كأنّما جاءت وفقا لقواعد سابقة عليها - normative - ما يوجب ذكر السبب في المحلّ من الإعراب! ما سبب الرفع أو النصب، أو الجرّ؛ ما يضطرّ واضع النحو ودارسه إلى "اختلاق" محذوفات لا يعرفها النصّ ولا قارئه! لتوضيح ذلك ننظر في تشكيل الاسم بعد عدا الاستثنائيّة مثلا. نقول: حضر التلاميذُ عدا واحدٍ / واحدا. في القواعد التي تعلّمناها وعلّمناها نعرب عدا حرف جرّ ليكون ما بعدها مجرورا، أو فعل ماضٍ فاعله محذوف، لتبرير نصب واحدا؛ باعتبارها مفعولا به! يعني أنت حرّ في اعتبار عدا حرف جرّ أو فعلا ماضيا في الجملة ذاتها!
لا أظنّ شعوبا أخرى تحفّظ أبناءها لغة "مصبّرة" منذ مئات السنين! هذا الجمود في لغتنا، مئات السنين، واصلتُ كلامي، جعل اللغة المعياريّة حبيسة المصادر والكتب، بينما يتحدّث العربي منّا هذه الأيّام في كلّ مكان، بلهجة ذلك المكان. لذا فالتلميذ العربي إذ يدخل المدرسة يتعلّم لغة جديدة، لا تشبه لغته في الشارع والبيت إلّا في نواحٍ قليلة. والغريب أنّ كثيرين من المربّين، من مدرّسي العربيّة في الصفوف الأولى بالذات، يتوهّمون أنّ التلميذ يجب عليه استيعاب هذه اللغة وتعقيداتها بسهولة، لأنّها لغته. لا يا سادة، اللغة التي يواجهها الطفل في الكتاب ليست لغته. وإذا كان هناك بعض الشبه باللغة التي يستخدمها في البيت والشارع، فهو شبه ضئيل، بل ضئيل جدا .. طوّلوا بالكم على هذا الطفل الغضّ! إنّها لغة لا يسمعها ولا يستخدمها إلا نادرا!
لذا فإنّ تأليف كتاب قراءة للطفل الصغير، في أوّل خطواته، هو مهمّة شاقّة، تابعتّ كلامي، لا ينهض بها إلا المربّون الأفذاذ. خليل السكاكيني مثلا. تعلّم القراءة والكتابة في بداية الطريق هي غاية لا وسيلة! هل تذكر يا صديقي كيف ألّف أحدهم ذات يوم كتابا يستجيب لمتطلّبات المنهاج "العصري"، فجعل الدرس الأوّل فيه باسم ولولو ؟!
المعلّم في الصفّ مسكين؛ عليه أن يعلّم ما في الكتاب حتّى إذا لم "يركب" على عقله. لذا فأنا اليوم، وقد جرجت من المدرسة، حرّ لا يقيّدني كتاب ولا منهج؛ أكتب ما يجب في رأيي أن يكون، لا أخشى في كتاباتي لومة لائم!
هذا رأيي، وهذا عذري. وأرجو أن تفهمني على هذا النحو، إذا قرأتني في قابل الأيّام!
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com