احترف أديب مهنة الحكواتي، فكان يذهب للمدارس ويروي القصص للطلاب، وفي أحد الأيام، بعد أن أنهى رواية قصّتين لطلاب المدرسة في قرية دير الأسد، رافقته في اللقاء طالبة من الصف الثالث تضج بالحياة، طالبة تعشقها العين من النظرة الأولى، فالحياة التي تسري في بدنها تفوق ما في بدن فيل. كانت الطفلة برفقة أمها التي تعمل مربية في المدرسة وهي التي استقبلت أديب لترشده إلى الصفوف.
صعد أديب مع الام وابنتها في المصعد إلى الطابق العلوي وسأل الصغيرة:
هل تحبين القصص؟
قالت برقة تحمل نغمة التأكيد:
نعم، كثيرًا.
وهل تقرئين ايتها الصغيرة؟
أجابت بصوت كريان الحياة:
لا.
تدخلت الأم بعدأن شبكت يديها على صدرها وقالت: ان صغارنا متلهّين بالإنترنيت وألعابه.
طبطب أديب بود على كتف الصغيرة وقال لها:
سأهديك بعضًا من قصصي للأطفال؟
رافقت الصغيرة الحكواتي أديب كظله وبقيت معه لمدة ساعتين، حصتين كاملتين، والصغيرة مُصغية بكل جوارحها لكل كلمة ينطق بها وإذا تجرأ وقاطعه أحد الطلبة، كانت الصغيرة تصرخ به: صه... وهي تقرّب إصبعها السبابة من شفتيها.
بعد نهاية اللقاء ومغادرة الطلاب القاعة، بقيت الصغيرة الى جانب أديب مبتسمة لسبب ما ابتسامة متأملة وحملت حقيبته الصغيرة ورافقته حتى السيارة. وعندما أهداها بعضًا من قصصه، لاحت سحابة قلق عبر عينيها. ورأى أديب الدموع في عيني الصغيرة فلم يفهم السبب، وكأنها ارادت ان تقول شيئا ما، ثم مشت بضعة أمتار والتفتت إلى الخلف ونادته وقبلته قبلة في الهواء.
رمق أديب الصغيرة بإشفاق صادق، اراد أن ينزل من سيارته ويعانق هذه القديسة الصغيرة التي اسعدته بمحبتها.
***
بعد أن ترك أديب المدرسة، عرج على أمه العجوز الضريرة التي تسكن في قرية ليست بعيدة ليمنحها بضع سويعات يعينها بها بعد ان فقدت نظرها. فهي أكثر النساء تيها ولطفا وحسنا.
وبعد ان حادثها وحادثته طلب منها ان يصحبها في مشوار خارج بيتها بعد ان تهرّب الصغير والكبير في عائلتها من القيام بهذه المهمة. سعدت الأم لهذا الطلب، وزارا معا اخته وبقيا برفقتها ما يقارب أربع ساعات، ثم سال أديب أمه إذا كانت تحب ان تواصل المشوار ليرافقها إلى زيارة أخرى، فوافقت على التو.
قاما بزيارة شقيق الوالدة الذي قارب التسعين من عمره وبقيت الوالدة برفقة اخيها يتناولان أطراف الحديث في شتى الأمور الى ان قاربت الشمس على المغيب، فاصطحب أديب والدته الى بيتها.
كان الوقت قد حان لتدلف الوالدة الى الفراش وأراد أديب العودة الى بيته في المدينة بعد يوم طويل. ألحت الأم بان ينزل معها الى بيتها ويشرب معها كأس شاي، فاعتذر منها بإصرارلأنه تأخر كثيرا عن أولاده وزوجته. ولكن الوالدة ألحت بان يصحبها، فرفض ثانية وثالثة بحجة انه تعب جدا، فما كان من الأم العجوز الا أن اقتربت منه وقالت بصوت بالغت في خفضه: لا أستطيع فتح باب البيت يمّا، استصعب ادخال المفتاح في سكرة الباب.
ارتج الهواء لسماع كلامها، فاضطر الى كبح جماح دموعه وشعر بالخجل، ورافقها ليفتح لها الباب، ثم ذهب الى بيت اخيه الذي يسكن فوقها وطلب من زوجته وجبة عشاء لوالدته. وضع امام أمه صحن ملوخية وخبز وماء. فأكلت حتى شبعت. خلب الحديث لبها مرّة اخرى فعادت الى عفويتها ورغبتها في الثرثرة.
شرب أديب مع والدته الشاي كما طلبت منه، ثم ودعها وذهبت صوب سيارته. وقفت الوالدة تودعه بعينيها الى ان صعد الى السيارة وهي تبعث بقبلاتها ودعواتها له.
أراد أديب النزول من سيارته ليعانق هذه القديسة الكبيرة التي اسعدته بمحبتها.
***
عندما وصل أديب إلى بيته، كان الوقت متأخّرًا، واوى الجميع إلى فراشهم. حط رحاله، ثم أخذ يعب من الماء الموجود في جرّة الفخار، كان ما زال يفكر في أحداث يومه، جلس على مكتبه وأخذ يكتب ما حدث له، فتدفقت الكلمات سيلًا. أنهى الكتابة وأخذ يقرأ ما كتبه، وقد غطى وجهه ظل عبوس ثمّ قطب وهو على درجة من الزعل ولكنه هدأ بعد ذلك وقال لنفسه: يبدو أنّني مفرط الحساسيّة، من سيهتم بهذه الترهات التي أكتبها... كوّر الورقة التي كتب عليها ورماها في سلّة المهملات، وأخذ ينظر إليها من بعيد. لم يصدّق نفسه عندما سمع الورقة الملقية تقول له: أين الثرى من الثريا؟ من أنت لتحكم عليّ إذا كنت سأثير القراء أم لا؟ هل تصدّق أنني كنت سأقوم وأعانقك بعد أن انتهيت من وضع كلماتك على صفحتي البيضاء... هيّا، خذني بيديك ودع القارئ أن يقرّر إذا كانت كلماتك مثيرة أم لا... تعال وعانقني.
حك أديب رأسه، واعيًا بأنّه يتخيّل كلّ ما سمعه، وأنّه لا يسمع سوى أفكاره. تناول الورقة من السلّة ومسدها بيده، ثم كتب عليها بيتين من الشعر، حضراه أثناء تفكيره بالورقة المكوّرة:
عجبتني كلمة من كلام الورق
النور شرق من بين حروفها وبرق
حبّيت أشيلها في قلبي، قالت: حرام،
ده أنا كل قلب دخلت فيه اتحرق.