د. سلام قدسي في مقاله:
التطور التكنلوجي والانفتاح في عصر المعلومات اعطى للاهل قوة غير مسبوقة بانكشافهم على ما يدور من حولهم من مستجدات في كافة المجالات بما في ذلك التربية
اقترح منهجًا يعتمد على تعزيز الهوية المجتمعية الفلسطينية لدى الاطفال بطريقة غير مباشرة من خلال اعادة الطفل الى حضن مجتمع مثالي متكامل فيه كل عوامل القوة التي تتمع بها المجتمعات في العالم
اليوم اكثر من اي وقت مضى تحتاج المربية في رياض الاطفال الى تحديد رؤيتها التربوية في ظل المتطلبات والتحديات المتسارعة في واقع متغيير يفرض نفسه. في كل عام تطل علينا ريفورما جديدة (برنامج اصلاح) يعلن عنه باحتفاء كانه المخلص المنتظر. من منا لا يذكر قبل عقد من الزمن اعتماد طريقة سينغافورا في تعليم الرياضيات التي استقبلناها استقبال الفاتح العظيم في مدارسنا وبساتين الاطفال معتقدين اخيرا اننا وجدنا ضالتنا المنشودة واولادنا سيصبحون عباقرة في الرياضيات هذا الموضوع المقيت فانتشرت الكتب والمعدات المرافقة من عيدان وسلالم متنوعة الاطوال وغيرها، لكن الطريقة اثبتت فشلها وعدم ملاءمتها لبلادنا وتم استبعادها دون تفسير او تأويل. قبل بضع سنوات رقصنا على انغام التجربة الفنلدية في التربية فلا وظائف هناك ولا تفتيش الكل يثق ببعضه البعض والتحصيلات هي الاعلى في العالم وجاءت الاصوات تنادي هيا نتبناها!
التطور التكنلوجي والانفتاح في عصر المعلومات اعطى للاهل قوة غير مسبوقة بانكشافهم على ما يدور من حولهم من مستجدات في كافة المجالات بما في ذلك التربية، فانفتحت امامهم خيارات مختلفة متمثلة باطر تعليمية متنوعة منتشرة حول العالم. رغبة الاهل وحقهم في تقديم الافضل لابناءهم جعلهم يضعون اسئلة صعبة امام جهاز التربية والتعليم الذي وقف حائرًا امامها. فمن اين جاء هذا الجيل الجديد من الاهل؟ في السابق اقتصر دور الاهل على ترديديهم لعبارات مثل امرك يا سيدي لك اللحمات ولي العظمات وقف للمعلم كاد يكون رسولا واذا شفت المعلم غير الطريق وغيرها.. الاهل اليوم اتخذوا دور الناقد المترقب الحريص المتشكك المتفحص المتوثب وغيرها من الادوار التي قد تتجاوز المائة.
الطفولة عالم بحد ذاته له ميزاته الخاصة ومختلف عن العالم الكبار وهي مسيرة فهم وبحث طويلة ممتدة الى اكثر من ثلاث مائة عام خلت استثمرتها عقول نيرة حول العالم لاكتشاف كنه وماهية الطفولة ولا تزال تبحث فيها. التوجهات التربوية اخذة بالتطور والانتشار باستمرار.
من اهم التوجهات التربوية الكلاسيكية نجد طريقة المفكر التربوي الالماني فريدريك فروبيل مؤسس اول صف بستان في التاريخ عام 1837. في ذلك الوقت لم يكن الاطفال قبل سن السابعة يدخلون المدارس. اعتمد البستان الاول على اللعب كاداة مركزية في تطور الاطفال، فابتكر فروبيل مجموعة العاب اطلق عليها اسم هدايا فروبيل وهي عبارة عن مجموعات من المكعبات من مواد واحجام واشكال مختلفة تهدف الى تطوير الجوانب الادراكية والحسية عند الاطفال من مهارات رياضية وخيالية وجمالية. بعد فروبل جاءت الطبيبة الايطالية ماري مونتسيوري 1907 وطورت طريقة جديدة في التعامل مع الاطفال عن طريق التشغيل بواسطة معدات ابتكرتها وطورتها بنفسها اثناء عملها في التربية الخاصة. تعتبر طريقة مونتسيوري التي لا تزال منتشرة الى يومنا هذا احدى انجح الطريق البديلة في التربية. من اهم مميزاتها اعطاء الطفل الحيز الخاص به للتطور واحترام قدراته الخاصة. تعتمد على التدرج في صعوبة الانشطة المقدمة للطفل تزامنا مع تطوره. فينشأ الطفل في ظلها معتمدًا على ذاته مستقلا يشعر بانه قادر على تنفيذ المهمات بنفسه. بعد عشرة اعوام تقريبا جاء المفكر والباحث المجري رودولف شطاينر ليطور نهج جديد في الطفولة المبكرة يعرف باسم تربية فالدورف او الانتروبوسوفيا التي تعتمد على رؤية الانسان من خلال مراحل عمرية مختلفة في كل منها يتم التركيز على جانب تعليمي واسلوب تعليمي مختلف عن سابقه. يكثر في هذا النهج التعامل مع الطبيعة والفنون كبيئات تربوية اساسية لنمو الانسان فينشأ خلالها مبدعا محبا للكون. منهج ريجيو اميليا (اسم قرية شامل ايطاليا) ليفرض نفسه كرد على ما الت اليه البشرية من دمار بعد الحرب العالمية الثانية، فيقدم مؤسس المنهج لوريس مالجوزي خلاصة فكره في قصيدة مؤثرة بعنوان مائة للغة للطفل: اراد من خلاله القول بان الطفل لديه مائة لغة وأكثر للتعبير عن ذاته ويجب ان يعطى الحيز المناسب لتطويرها. تقوم طريقة ريجيو اميليا على اعطاء حيز واسع وغني بالمحفزات يجد الطفل خلاله متنفسا عن ابداعه. يتم عرض ابداعات الاطفال بشكل دوري ويتم توثيقها فيشعر كل طفل باهمية دوره وعمق تفكيره مع دعم مستمر من قبل المربيات والاهل كشركاء فعليين في عملية البحث والاكتشاف والابتكار وصولا الى العرض النهائي.
بعدها توالت التوجهات الحديثة في التربية والتي امتازت ببعدها الانساني والشمولي فكان اهمها التوجه الديمقراطي وتم تطوير موديلات عديدة واختلفت التوجهات واقيمت المدارس المختلفة في كافة انحاء العالم وفق التوجه الانساني الشمولي. بعدها دخلت التكنلوجيا الحديثة وتم استثمارها في توجهات عديدة تعتمد على الحوسبة والبرمجيات. كل هذه المشارب اعطت للتربية بشكل عام وفي الطفولة المبكرة بشكل خاص زخما غير مسبوق وتحديات ادخلت الكثير في دوامات كان المخرج منها اعتماد مبدأ الشمولية على قول الحكماء من اجدادنا كلو خير وبركة يا ستي.
أجد من الضروري سرد هذه المقدمة الطويلة لاصل بالقارئ الى خلاصة بان الطفولة المبكرة تشهد نهضة غير مسبوقة تحتاج منا الوقوف للتفكر لاسيما ان جميع التوجهات المتداولة في بلادنا هي نتاج مفكرين من ثقافات وحضارات عالمية وليست محلية ومن حقنا ان نتسأل اذا كانت تناسب اطفالنا وحضارتنا. وحتى التوجهات المنتشرة في المجتمع اليهودي والتي تم تطويرها لتناسب الاطفال اليهود ليس بالضرورة تناسب اطفالنا لاختلافات جوهرية اهمها ان اليهود عبارة عن مجتمع مهاجر له ثقافات متنوعة قد تناسبهم التوجهات التي تم تطويرها في بلدان هم اصلا هاجروا منه كاوروبا. فالفكر الاجتماعي التقدمي الاوروبي هو اصل الفكر الاستيطاني الكيبوتسي ومنه نتج المنهج الكيبوتسي في الطفولة المبكرة والروضة الجارية وغيرها.
ان الاوان لنطور مناهج وتوجهات تربوية تناسب مجتمعنا. وتعطي ردا على التحديات التي يمر بها اطفالنا من خلال وجودهم داخل هذا مجتمع المحل العربي الفلسطيني. هذا لا يتعارض مع اشتمال اي توجه مستقبلي على تربية قيمية للانسانية عامة والانفتاح على حضارات الشعوب الاخرى والعالمية. فمن شروط التربية المستقبلية تحقيق الذات المحلية العالمية في آن. ارى من الاولى البدء بالتربية لمجتمعنا المحلي من خلال توجهات تربوية تعيد الطفل الى حضن مجتمعه الام.
اقترح منهجًا يعتمد على تعزيز الهوية المجتمعية الفلسطينية لدى الاطفال بطريقة غير مباشرة من خلال اعادة الطفل الى حضن مجتمع مثالي متكامل فيه كل عوامل القوة التي تتمع بها المجتمعات في العالم. لا مجتمع مهزوز يغرق في براثن الجريمة والعنف والنكبة والحصرات كما هو معاش اليوم. هذا منهج اصلاحي ترميم لابد منه لتحقيق غد افضل ومستقبل نير لشعبنا. المقصود بتربية ايجابية لمجتمع متكامل او متماسك بما يتناسب وتطور الطفل الادراكي فنقدم له تربية قيمية تعتمد على تعزيز وحدة المجتمع في احياء لطرق تدريس وتمرير مواد فيها صبغ مجتمعي من شأنه تدعيم صورة المجتمع في نفس الطفل. فمثلا بدل ان نعلم عن ظاهرة العنف نعلم مواد مرتبطة بمواسم الارض وافراح الناس باجمل صورها. يتم ادخال كل هذه العناصر الى الصفوف ومحيطها. لا بشكل معارض او وسائل ايضاح بل عن طريق نهج حياة. فمثلا يتم زراعة شجرة زيتون في مدخل البستان او المدرسة عالية كبيرة شامخة جذعها عريض كله تشققات تشهد على عمرها الذي فاق المائة. من اين نحضرها؟ موجودة صدقوني تباع بسعر رخيص اذا ما قيس بضرورة وجودها وحضورها في وجدان اطفالنا في مرحلة الطفولة. يوميا يتم الجلوس تحتها واجراء الفعاليات حولها. تقطف في موسمها بكل عناية ويتم الاهتمام بها بقدسية ذكرها في الكتب السماوية. يتم كبس زيتونها في مراطبين كبيرة من زجاجية توضع على رفوف عالية ختى تنضج فيراها الاطفال يوميا فترسخ في اذهانهم. وعند نضوجها يتم اخراجها يوميا لتضاف الى وجبات كاملة الغذاء تشبه وجبات مجتمعنا التي نشانا عليها ولم نعد نجدها. في محيط البستان تفوح رائحة الخبز المخبوز محليا داخل الصف تملأ الحارة فيزيد هذا البستان حارتنا جمالا ويصبح مبعث فرح يومي فتغار الجارات وتستذكر الامهات طفولتهن وتسأل ما هو سر هذا البستان. الامر لا يقتصر على الطعام ولا على الزيتون. على المنهج المناسب لمجتمعنا ان يكون ذا طقوس خاصة ونشاطت وبرنامج يومية مميزة تتناسب وتطور الطفل وترسيخ حبه لمجتمعه. اهداف البستان المجتمعي واضحة. له ادواته الخاصة والمميزة والمأخوذة من صميم المجتمع. فلا تستغربوا وجود حجر الرحى يعمل به الاطفال في شهر ايار ويطحنون حبات القمح التي حصدوها للتو من حديقة البستان. هذا المنهج هو نهج حياة يقوم على تعزيز صورة المجتمع في نفس الطفل لينشأ محبا لبلده واهله ولذاته. هذا منهج هوية وأنا في نفس الوقت. يعتمد على الكثير من النظريات التي تؤكد ضرورة انتماء الطفل لمجتمعه حتى يحقق ذاته بشكل افضل مستقبلا. في هذا المنهج نرد على ما اصاب مجتمعنا من تمزق وضياع للهوية ونعيد الطفل كمبادر وفعال ونزوده بأهم اداة للاصلاح وهي المحبة لمجتمعه المحلي والعالمي.
تعالوا معًا لنحقق انفسنا منهجا تربويا حقيقيا فلا نرقص في اعراس ابناء العموم على انغام التنجو بينما في حارتنا مناسبات بهيجة تنتظر من يحيها ويعيد لها الحياة فيصير مجتمعنا بها اجمل. مهما ابتعد الاطفال عن فطرتهم المجتمعية سيعودون اليها فهي متوارثة في حامضهم الاميني وفي جيناتهم ومهما حاولنا عن قصد او دون سلخهم عنها فاننا في حقيقة الامر نزيد من غربتهم وتشرذمهم والنتيجة معروفة فيكفي ان تنظروا حولكم لتروا بانفسكم الى اين وصلنا. لنعد لمجتمعنا وحضارتنا. ما نزرعه اليوم في نفوس اطفالنا سنحصده بعد عشرين وثلاثين عام في افعالهم. هذا جزء من منهجي التربوي الذي اعمل عليه ليل نهار لاحققه وانشره واحقق من خلاله لمجتمعي ما يستحق وهو يستحق.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com