كثير جدًّا من الناس، الكثيرون جدا لديهم ذكريات مرتبطة بقريتهم. ولدي أنا ذكريات عديدة وبينها ذكرى واحدة قويّة للغاية ولا يمكنني أن أنساها، كيف أنساها، هل يُعقل أن أنسى من علمني الكتابة والقراءة. قريتي التي لم تعد صغيرة، ما زالت تصنّف الناس حسب ما يملكون، وما زال المثل القائل "معك قرش بتسوى قرش" يحتل الصدارة في الأمثال المتخاذلة بين اهالي القرية، حتّى ولو كنت من حاملي الشهادات الكبرى ولا تملك ذلك القرش الأبيض الذي يصنفك باليوم الأبيض والأسود، فأنت لا تساوي شيئًا في هذه القرية.
عاشت قريتنا يومًا اسودًا، حين توفي شابًا محبوبًا جدًّا، ويكن له أهالي البلدة احترامًا كبيرًا، رغم انه ليس من اصحاب القروش البيضاء، لكنّه أصيب بمرض عضال ومات في ريعان شبابه يا للحسرة، بعد أن بدأ بتكوين أسرة صغيرة وديعة.
اجتمع في دار العزاء -التي أقيمت في ساحة محاذية لبيت أهله- معظم أهالي القرية وقد اكتظ المكان بالمعزّين الذين ترقرق عيونهم برماد الحِداد. كنت أساعد بعض الشباب في استقبال المعزّين وتقديم القهوة السادة وحبّات التمر والماء البارد، عندما لاحظت دخول أحد المربين الذين نكن لهم -نحن الجيل القديم- كل الاحترام والذي تخرّج على يده معظم أهالي القرية وقد قارب الثمانين من عمره، وهو شخص صارم وذو شأن في مجال التربية والتعليم والأخلاق.
تلفّت المربي يمينًا وشمالًا بعينيه بندقيتي اللون، المسنتين الغامضتين ولم يجد مكانًا له بين المعزّين، فشحب لونه واحتار أين يجلس، عدَّل المربي نظاراته على أنفه ونظر من حوله وتمتم بلغة لا يعرفها أحد وذهب إلى الصفّ الأخير ليجد مقعدًا له، تخبط كلّ شيء في رأس المربي وتناثرت أفكاره بلا هدى وكأنّها أرانب تقفز خارجة من جراب باتجاهات مختلفة.
كان بين المعزّيين أحد الباعة المتجولين الذي لوّح له بيده ووقف ليجلسه في مكانه. البائع المتجول في السوق والحارات هو والدي، والتقت نظراتنا في ذلك الحين وكأنّه يقول لي: هذا أحد الدروس التي أريدك أن تتعلّمها يا ابني، فليس كل من معه قرش يساوي قرشًا. فهذا المربي علّم جميع أهالي البلدة من أصحاب القروش البيضاء وغيرهم.
على الفور، توجّهت إلى المربي، وقدّمت له القهوة المرّة، بعد أن حييته وقبّلت رأسه، وقد طلب مني ان أجلب له كأسًا من الماء البارد، لأنّه يشعر بجفاف حلقه... وكان له ذلك.
شاءت الصدف، بعد لحظات معدودة دخول أحد الأعيان المعروف بثرائه في قريتنا، ويدعى فالح المختار، وكان شاربيه مفتولان إلى الوراء، ولحيته محلوقة كلحية رجل متعلم وهو من الذين قال عنهم والدي مرّة: "انني أشفق على هؤلاء الذين لا يملكون سوى المال". ويتميّز هذا الفالح وعائلته بمجد الاحتيال تارة والعار والحب والكره والرذيلة والفجور تارات أخرى، وجمع أمواله بطرق استغلالية عديدة من أهل بلدته، فأصبح من أثرياء البلد المعروفين حتى خارج حدود القرية.
وبمجرّد دخول فالح المختار، وعلى الفور، بدأ الحاضرون يخلون له مكان ليجلس في الصدارة، وكانوا يزقزقون حوله كالعصافير وهو حتّى لم يبادر في الشكر، وكأنّ ما فعلوه من أجله هو واجب لا يستحقّ الشكر، وجميع الذين نهضوا احترامًا لشخصه هم ليسوا من أصحاب القروش البيضاء، ومنهم حتّى من كان ضحية لاستغلاله. أثار فالح المختار الهمهمة الترحيبيّة من حوله وهو لا يساوي فلسًا صدئًا واحدًا.
***
بعد أسبوع من تلك الحادثة، كنت أرافق والدي في سيّارتي التندر لبيع الخضروات التي نجنيها بأيدينا من حقلنا... تجوّلنا في القرى المجاورة، ننادي بالميكرفون على بضاعتنا، وقد تيسّر الحال وبعنا معظم ما جلبناه معنا، فالجميع يعرف والدي ومدى جودة بضاعته.
عند ساعة العصر، قرّرنا العودة إلى قريتنا، وكنّا ننوي أن نتوقّف عن البيع والذهاب إلى البيت للراحة، لكن في طريق العودة، استوقفتنا إحدى نساء قريتنا وسألت عن سعر كيلو البندورة، وعندما ابلغتها بالسعر، صرخت قائلة وغمر وجهها الأسى والقلق: ولو، كثير هيك!!
فقلت لها: هذه بندورة بعليّة من أرضنا ولن تجدين مثلها في السوق...
ضيقت المرأة عينيها وأجابت: أنّ البندورة عند فالح المختار بنصف السعر...
عندها، قلت وانا أداري غضبي وتضرج وجهي احمرارًا:
عندما تقفون لي بدار العزاء، مثلما تقفون لفالح المختار، سأعطيك البندورة مجّانًا...
لم تعجب المرأة بكلامي، رمشت بعينيها وبرمت شفتيها وهي قافلة راجعة من حيث أتت، وقالت وهي غاضبة:
أنا لا أقف احترامًا لأحد...
كنت أعرف هذه المرأة جيّدًا وأنها على عكس ما تقول، فنظرت إلى أبي وقد ابتسم لي واغرورقت عيناه برطوبة موحلة وأراد أن يتفوه بشيء ما، لكنه لم يقل شيئا، وأخذ نفسًا عميقا مرّتين، ففهمت بأنّه فهم بأنني استوعبت الدرس، ثمّ بانت على وجهه ابتسامة رضى، وكأنّه يقول لي: "أنا أفخر بانّك ابني وعش يا ابني حتى آخر حياتك بأياد نظيفة"...