كيف أَرثيك والرِّثاءُ كلامُ، ومن الحزنِ تعرُجُ الأقلامُ؟
كيف أَرثيكَ والحروفُ ضَحايا وعلى الشِّعر يَستبدُّ الظلامُ؟
بيتُك الآنَ فيَ فِلسْطينَ قبرٌ من رُخامٍ، عليه رَفَّ الحَمامُ
تلكَ أحببتَ من زمانٍ زمانٍ، ورمتْكَ في حُضنِها الأنسامُ
بعضُ ليمونِها عليكَ سَماءٌ... بعضُ زيتونِها العَتيقِ خِيامُ...
صوتُها صوتُ عاشقٍ عربيٍّ لا يَنامُ، ولا الغِناءُ ينامُ...
ذاتُ عينينِ ما رأى الناسُ أحلى منهُما، أو تَخيّلَ الرسّامُ...
شَرّدوها ولا تزالُ عَروساً في الحِكاياتِ، مَهرُها الأحلامُ
حاصروها فحاصرتْهم جميعاً وعلى الوجهِ دمعةٌ، وابتسامُ
علّقوها على الحِبال فصارتْ كُلَّ حقلٍ يميلُ فيه الخُزامُ...
تغلِبُ الموتَ كلَّ يومٍ وتمشي... وعلى الدربِ يَسقُطُ الأقزام.
لا تلُمنا، فقد رحلتَ بعيداً والبلادُ التي عَشِقتَ رُكامُ
قسّمونا وفرّقونا... فصِرنا في البَوادي تقودُنا الأوهامُ
يَذبَحُ الجَهلُ في العِراقِ أناساً بالحِرابِ كأنّهم أغنامُ...
والمواعيدُ في دِمشقَ دماءٌ، وهَديرٌ يَشيبُ منه الغُلام
في بِلادي القبورُُ صاحت، ولكنْ ما استجابَ لصوتِها الحُكّامُ
فالبَياناتُ كلُّها من حَديثٍ جاهِليٍّ تَدوسُه الأقدامُ...
صائِمونَ عن القِتالِ طويلاً وإلى الدهرِ قد يَطولُ الصيامُ
مَن فِلسطينُ يَدفَعُ الحِقدَ عنها؟ أينَ مصرُ؟ وأينَ... أينَ الشامُ؟
حين ماتَ الكبارُ فينا... بَكَينا في الزوايا كأنّنا أيْتامُ
ودَخلنا إلى السلام وُفوداً فعلى القُدسِ والتُرابِ سَلامُ
غزّةٌ وحدَها إلى الحربِ هَبّتْ ومِن الموتِ قامت الأجسامُ
لا يُجيببُ الرصاصَ إلاّ رصاصٌ لا يَرُدُّ السِهامَ إلاّ السِّهام...ُ
قُلْ لدرويشَ إنَّنا ما تعبْنا والمتاريسُ فوقَها الأعلامُ
قُلْ لدرويشَ: ما تَركنا حُقولاً فلنا العِطرُ، والثَّرى، والغَمامُ
والتلالُ التي ركضْنا عليها لم يزلْ فوقَها يَطيرُ اليَمامُ
والينابيعُ ما تزالُ تُصلّي كيف تَمْحو صَلاتَها الآلامُ؟
كلُّ طِفلٍ هنا شَهيدٌ جَديدٌ والدَّمارُ الذي هُنا أكوامُ
غيرَ أنّ الحياةَ فينا لَهيبٌ والشُّموخُ عقيدةٌ، والتِزامُ
قادمونَ وفي القُلوبِ رجاءٌ واقفونَ وتنْحني الأيّامُ
كلُّ مَوتٍ قيامةٌ وانتصارٌ كلُّ جُرحٍ على الصُّدورِ وسامُ.
يا سميحُ تباعدتْ أوطانٌ فالعَناوينُ غُربةٌ، وانقِسامُ
عامِلون على المرافئِ نحنُ... مُرهَقونَ كأنّنا خُدّامُ
والسُّجونُ مليئةٌ، ليس يَنْجو غيرُ مَن كان حُكمَه الإعدامُ
كلُّ حَرفٍ نقولُهُ فيهِ عيبٌ، كلُّ فِكرٍ مقاومٍ... هَدّامُ...
هكذا يُتركُ الحصانُ وحيداً في الشتاءِ، وما عليهِ لِجامُ
هكذا يَضرِب النفيرُ، ولكنْ كلّما دَقّ يعتريهَم زُكامُ...
والسلامُ الذي وصلنا إليه وقّعوهُ لأنّه استسلامُ...
ويَلومون خالداً حين يأتي من بَعيدٍ، وفي يَديهِ الزِّمامُ
ويلومون شاعراً حينَ يشدو: يا بلادي، وتصدَحُ الأنغامُ
إنّ مَن مات مرّةً كلّ يومٍ لو أرادَ الحياةَ ليس يُلامُ.
*******
الدكتور جميل الدويهي- أديب مهجري موسوعي من لبنان، مقيم في سيدني استراليا، ويحرر موقع ثقافي هام باسم "افكار اغترابية".