على إثر اعلان صفقة القرن الأمريكية لا بُد من قراءة صورة القرار من خلفيته وحتى نتائجه، هذا الصفقة التي تُحسب كتصفية للقضية الفلسطينية وتلبية للمطالب الاسرائيلية، فلا حق للعودة، والقدس موحدة عاصمة لإسرائيل (وحتى الأقصى هناك اشارة لتقسيمه زمانياً والسماح لليهود للصلاة فيه)، والأرض في الضفة الغربية ستكون بسيطرة اسرائيلية لتكون ما تسمى دويلة "الكنتونات" وبالتالي لا يمكن تسميتها إلّا خطة تصفية القضية الفلسطينية. في الخلفية، فإن كنا نتحدث عن خطة ترامب هذه فليس بالضرورة يمكن عزوها لمحبة اسرائيل المبدئية التي يكنّها ترامب تجاه هذا الكيان، إنما يجب قراءتها في سياقات مختلفة، منها أن ترامب يسعى لإرضاء خزانه الانتخابي المتمثل في المسيحيين الانجيليين الذين يمثلون نحو ربع سكان الولايات المتحدة (تتراوح أعدادهم بين 60 ال 100 مليون) وهم مؤمنون مبدئيون بوجوب دعم اسرائيل لكون ذلك يعجّل بعودة المسيح وبرز هذا التوجه الديني في خطابي ترامب ونتنياهو. هذا الخزّان الانتخابي الذي يمكن أن يعيد ترامب إلى البيت الأبيض، ناهيك عن علاقاته ومقربيه السياسيين وكونهم من الداعمين لإسرائيل، كل ذلك يتقاطع مع سياسة الجمهوريين الداعمة بشكل عام لإسرائيل. الإعلان ذاته يتزامن مع محاكمة نتنياهو ومحاولة عزل ترامب ليحوّل الاهتمام عن هذان الحدثان، وبنفس الوقت يعطي قوة لهما في الانتخابات القريبة في كلا البلدين.
في السياقات، فيمكن رؤية إعلان الرئيس الأمريكي ترامب عن صفقة القرن، تجسيداً للأمر الواقع القائم على الأرض والذي فرضته اسرائيل في الضفة الغربية وسائر المناطق الفلسطينية. سيطرة اسرائيل وتوسعها كان وفق استراتيجية فرض الحقائق على الأرض، هذه الحقائق التي بدّلت التعامل مع الصراع وحله من صراع على حق يجب أن يعود لأصحابه، لواقع مفروض على الأرض يجب التعامل معه ومراعاته. كما أنه غيّبت القضايا المركزية في الصراع من القدس واللاجئين الى قضايا أخرى اقتصادية ومعيشية، وحلم دولة هلامية. وهذا يشير إلى منطق القوة، وأن صاحب القوة هو الذي يقّر الحلول ويحدد التوجهات ويفرض أجندته.
كل هذا يترافق مع وضع عربي مترهل وحالة من الوهن السياسي تُصيب الجسد العربي والفلسطيني لتبدو أكثر الفرص مواتاه لطرح هذه الخطة. فالانقسامات العربية والحالة السياسية في العالم العربي من سوريا إلى اليمن فليبيا ومصر وغيرها حالة سيئة جعلت بعض الأنظمة تشارك في خطة ترامب بل وتمولها!
كما أن استخدام ترامب لورقة إيران لجعل العرب، وهنا نتحدث عن الطبقة السياسية العربية في عدد من الدول، مرتبطة بالولايات المتحدة واسرائيل بشكل كبير خوفاً على نفسها من الخطر الإيراني الذي لعبت على وتره الولايات المتحدة واسرائيل، كما أن ايران ذاتها عززته بنهجها في المنطقة، ولكن بات الحديث عن هذا الخطر وجعله في رأس سلم المخاطر، هو المهرب لدعم أمريكا واسرائيل وسياساتها على حساب القضية الفلسطينية.
في ردود الأفعال، يجب على الفلسطينيين (والعرب والمسلمين كون قضية فلسطين هي قضية كل الأمة) أن يتوحدوا في مواجهة هذه الخطة، وأن يتم بناء الحياة السياسية الفلسطينية على أساس احترام الاخر والاحتكام للشعب والأهداف الفلسطينية العليا، هذا يجب أن يترافق مع صياغة المشروع الوطني الفلسطيني وبناء خطة جامعة للشعب الفلسطيني يسعون لتطبيقها وجعلها واقعاً على الأرض، ويكون ذلك بمناهضة فرض الواقع الاسرائيلي والامريكي على الأرض وبالعمل حثيثاً على تحويل السخط الفلسطيني على الاحتلال (فاسرائيل ترى أن احتلالها غير مكلف) وبإعادة بث الروح بالانتماء الفلسطيني بعد أن أصبحت القضايا الحياتية والاقتصادية تحاصر الفلسطينيين وبات الفلسطيني يبحث عن إدارة حياته اليومية وأصبح منقطعاً عن قضيته وقضايا وطنه الكبرى. بنفس الوقت يجب على الفلسطينيين اعادة موضعة القضية لتكون كقضية لكل الأمة وصراع بين الأمة، وبين مناصري قيم الحرية والعدالة من جهة والاحتلال من جهة اخرى.
كما أن واجب المرحلة هو الانطلاق من منطق المدافع إلى منطق المبادر، فعلى الفلسطينيين، العرب والمسلمين العمل بشكل حثيث في الساحة الدولية من خلال اقناع الرأي العام الدولي بأخلاقية ومبدئية النضال الفلسطيني ويكون ذلك بالتشديد على البعد القيمي في الصراع وكون الفلسطينيين يسعون لتحقيق جملة من المبادئ من العدل والحرية والكرامة. بمعنى تجييش الرأي العام ضد الاحتلال وجعل الرأي العام يختار صُنّاع قراره في بلده وفق معايير مهتمة بإحقاق الحق لأصحابه من خلال فرض هذه الاجندة، بحيث يصبح الناس مهتمين ومتبنين لوجهة نظر الفلسطينيين حول حل الصراع عند معاينتهم للقضايا الدولية التي يتبناها المرشح، وبالتالي أن يقود هذا الأمر منتخبي الجمهور بأن يكونوا حرصين على أن يسيروا وفق هذه الرؤية لكي يتم انتخابهم. وهنا يكون الدور الاعلامي والشعبي بتسويق القضية بشكل مبدأي، وقيمي وأخلاقي تجعل من الجميع يتضامن معها ويتنظموا على هذا الأساس وبالتالي يصبح لهم ثقل سياسي لا يمكن لأي رئيس في أمريكا او غيرها أن يتجاوزها، وإذا كان ترامب اعتمد على المسيحيين الانجيليين فيجب جعل غيره يعتمد على أناس آخرين اجتمعوا على مبدئية نظرتهم للصراع.
أخيراً كل هذا يجب أن يترافق مع مشروع عام للفلسطينيين والأمة تنهض فيه من حالة الهوان، فالعالم لا يحترم إلّا الأقوياء وأصحاب المشاريع والذين يسعون لتطبيقها.
*كاتب المقال:- د.ابراهيم خطيب. باحث سياسي، زميل في مركز الدراسات الشرق أوسطية- جامعة هارفارد.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com