سنة مرّت كلمح البصر واللّهي وكأنها لم تمر ذكرى غاية في الصعوبة والتحمل على فقدان غالِ وحبيبِ وعامود أساسي من أعمدة البيت.
هذا الشعور و هذا الإحساس بالحزن العميق كان واضح و ملموس على كافة وجوه أبناء و أفراد الأسرة من البنات و الأبناء و من جموع الأحفاد و الحفيدات و هم كُثر و للّه الحمد, بالإضافة أيضا الى النسائب و من عزّت عليهم و كأن هذه السنة لم تمر و لم تستطع هذه المدة القصيرة من الفراق المؤلم الحزين أن تروض فكرنا و عقولنا و أحاسيسنا بأن هذا الرحيل كان رحيل أبدي بلا عودة.
كنت أعتقد أن هذه المرة ككل المرات السابقة من حيث التجارب الماضية حين ما تأتي سيارة الإسعاف لنقل المرحومة الى المشفى لتلقي العلاج و الفحوصات الروتينية التي تعودنا عليها في فترات سابقة و على مدار سنوات طويلة من المعاناة و الأوجاع المؤلمة التي كانت تتعرض لها من حين الى آخر بحيث كان من الصعب بل من المستحيل على انسان كان ان يحمل تلك الحمل الثقيل من الآلام و الأوجاع التي تحملته المرحومة الحاجة أم أحمد و خاصة عندما أجريت لها عملية القلب المفتوح عام 1996 من القرن الماضي في مشفى رمبام و لم يكن ليحالفها حظ النجاح في تلك العملية عندما أعيد فتح العملية مرة أخرى بعد الإنتهاء من إجراءها بأقل من ساعة و كان موقف لا نحسد عليه وجومياً و صعباً و بأقصى ما يمكن وصفه واضحاً على وجوه أبناء الأسرة المتواجدون حولها و لكن و بحمد الله تعافت من اجراء العملية بعد مكوثها في المشفى أكثر من ثلاثة أشهر, و قد استمرت في المراجعات الطبية و المراقبة أيضا و قد عادت صحياُ بشكل تدريجي
في ذلك الوقت الى حضن العائلة و قد ساد الفرح و السرور جميع ابناء الأسرة الا أن و على ما يبدو أن المرض الملعون دائماً و أبداً يجد له الثغرات و المسارب و نقاط الضعف للإنقضاض على فريسته و لكن كما جاء في الآية الكريمة:" لايستقدمون ساعة و لا يستأخرون". و هذا قرار إلهيّ و شأنه في عبده هم السابقون و نحن اللاحقون, لقد كان للحاجة حضورها الأسروي الجامع و حبها الجامح لجميع أبناء الأسرة و العائلة على مدار كل المفترة التي قضتها في حويق و صفوف الأسرة و العائلة جمعاء و هي ليست بالفترة القصيرة بل تعدت الخمسة و خمسون عاماً تخللتها العشرة الحسنة و الأخلاق العالية و الحب و الإخلاص و العطاء و بذل كل الجهد و التعب لتقديم أفضل و أحسن التربية و الأخلاق و حسن الآداب الإجتماعي للبنات و الأولاد و هذا ما قد حصل فعلاُ. و للحقيقة أذكر كنت أبدأ حواراً أو نقاشاُ أسروي معها و هي بموقع لأم لأولادي و أيضا صديقة العمر أيضاً.
لقد قضينا تلك الفترة من العيش المشترك و التعاون على أكمل وجه و بكل حب و إحترام و مشاركة في أخذ الرأي و القرار حول كل الخصائص الأسروية و العائلية و كان النقاش أحياناً يصل الى ذروته من الحدة و لكن و في نهاية المطاف نتفق و نتوصل الى الصيغ و التفاهمات التي تصب في المصلحة الأسروية و كيف يمكن أن نجد الإمكانية المادية للقيام بواجب تعليم الأولاد و البنات على خير وجه و خاصة أن ثلاثة منهم في الجامعات واحد في التاخنيون و الثاني في جامعة بن غوريون و الثالث في كلية الناصرة العليا, بالإضافة لهذا العبئ الثقيل و هذا الجهد الجبار لتوفير هذه الامكانيات المادية و هناك أيضاً واجب توفير المصروف الشهري للأسرة و ما كانت تحمله تلك الأيام من المصاعب و مشقة الحياة و عسرها و العيش في كرامة و كبرياء و عطاء بحيث لا يشعر أحد من أبناء الأسرة بأي نقص أو عدم توفر أي حاجة تخص البيت لا سمح الله و هذا ما لم يحصل طيلة كل الفترة التي مررنا بها. هذه هي الأمور التي كنت أناقشها في تلك الأزمنة مع المغفور لها الحاجة أم أحمد. ان صبرها و تعاونها المتفانِ كان بلا حدود و استطعنا سوية على مواجهة كل المصاعب و قسوة الظروف و توفير كل مقتضيات الحياة المعيشية اليومية و التعليمية و كل تبعات ذلك, " من البابوج للطربوش" كما يقال بالمشرمح, لعائلة تتكون من عشرة أنفس ستة بنات وولدين بالإضافة أيضا الى الاب و المرحومة الوالدة هذا العبئ ذات الوزن الثقيل كنت اتحمل وزره و ثقله و معاناته لوحدي بحيث كنت أنا المعيل الوحيد في تلك الفترة القاسيةو في صعوبتها المتعددة و قد أعانني الله و جهد المرحومة على ما ذكرت سابقاً و اتبعنا المثل الشعبي الدارج القائل الرجل يسهر و يجني و الأم تسهر و تبني بالإضافة لما قاله الشاعرالكبير أحمد شوقي: " الامرأة اذا اعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق", بمعنى أن للامرأة المثقفة المتعلمة دور بارع و أساسي في صنع و بناء المجتمع الراقي و المثقف و المتقدم على أسس ذات قوة و متانة.
لقد استمعت للكثير من الاخوة الذين جاءوا لتقديم واجب العزاء بأن المرحومة أم أحمد كانت امرأة حسنة الأخلاق و طيبة و متسامحة و لم تسيء يوماً لأحد و كانت امرأة ماجدة بكل المعنى للكلمة, هكذا وصفها أحد الأخوة المعزون من أبناء القرية و هكذا عرفت المرحومة لكل من عرفها على صعيد القرية و خارجها طيلة الخمسة و خمسون عاماً التي قضتها في رحاب دير-حنا.
لا أدري اذا كانت تلك الفترة الزمنية بعددها و زمنها و سنواتها بطولها و عرضها أهي كانت قصيرة أم طويلة فمن جانبي أنا و بكل حرقة و حب كنت أتمناها لو طالت و زادت أكثر و لكن لا إعتراض على حكم الله فلله ما أعطى و لله ما أخذ,
لقد كانت الزوجة الامينة و الزوجة المصون و الأم الحنون و صاحبة التربية و العطاء و بكل فخر و سخاء لكافة أبناء الأسرة دون تمييز لقد اعتادوا هؤلاء الأحفاد صغيرهم و كبيرهم على هذا الحضن الدافئ الذي احتضن الجميع لسنوات طويلة من العطف و الحنان و حتضان الجدة لهم و لكن بين عشية و ضحاها كانت يد المنون أقوى وقد نالت منها و ذلك بقرار الهيّ سبحانه و تعالى, لقد غادرتنا الحاجة لطفية على حين غرة دون موعد للعودة لقد كانت أعز الناس الى قلبي و فكري و هكذا ستبقى فأنت يا أم أحمد أيتها الزوجة الصالحة الفاضلة الماجدة يا خلوقة الفكر و السلوك نامي قريرة العين و إن شاء الله يجعل حفرتك هذه من حفر الجنة , هذه الحفرة التي سيلتحق بها كل من عليها و هذا قرار الهيّ و به آمنا
و لا اعتراض عليه, فإلى جنات الخلد و إن شاء الله أن يجمعك مع الصديقين و الصالحين و رحمة تتنزل على روحك الطاهرة من رب العالمين.
الزوج عوض حمود
تاريخ الوفاه 2019-2-6
ديرحنا
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com