لم يحتج المهجر الفلسطيني عبد المنطق عبد الحق، المكنى بابي اكرم.. دون وجه حق، لم يحتج الى وقت طويل ليفهم او يتفهم سبب انفضاض الجميع من حوله وانصراف كل منهم الى شانه.. تاركا اياه هو ويده الضنينة.. يعيش عزلته مخترعا اياها، ومعايشا حفافها حتى اعمق اعماقها، فقد كان يعرف ان نهجه في الحياة لا يعجب المحيطين به وانه غير مريح لهم، فهو دائم التملص من الدعوات الى هذه الحفلة او تلك، واذا ما اضطر لحضورها مُكرهًا، فانه يقف عند الدفع جانبا وكأنما الامر لا يعنيه، تاركا تحمل المسؤولية لمن اقترح الحضور وجرّه اليه جرا، وللحقيقة فان مثل تلك المواقف المحرجة له ولمن صادف ورافقه لم تتكرر كثيرا، فقد كان يعرف بحاسته المرهفة موعد هبوب رائحتها بالضبط مثلما تعرف فئران السفينة موعد هبوب العاصفة البحرية فيبادر الى الهروب ناجيا بجلده وتاركا غيره يتدبر امره.
رغم انه بات مع مضي الوقت وتعاقب المواقف المحرجة، يعرف كيف يمكنه التخلّص من اصعب المواقف واكثرها انداءً للجبين، فقد اكتشف بعد بحث مضن وتفكير مليٍّ مستدام، طريقة اخرى لتفادي النظرات من اطراف العيون.. ابتدأت في التبلور خطوة اثر خطوة واجراءً تلا اخاه.. ابتدأ ذلك عندما جرى حديث افتتحه صديق له عاش عقدا من الزمان في احدى الدول الاسكندنافية، واشار فيه ، عن قصد او غير قصد، كما خيل لي، الى ان اهالي تلك البلاد، يفضلون عندما يترددون على هذا المقهى او المطعم، ان يضع كل منهم مشطه بلحيته ويدفع عن نفسه، فما ان استمع الى ما قاله صديقه هذا حتى شرع في مديح الاوروبيين.. لا سيما في دولهم الاسكندنافية، وفي امتداح ما يتحلّون به من صفات، واغتنم الفرصة ليضرب ضربته الاخيرة، فاقترح على اصدقائه ان ينتهجوا معًا تلك الطريقة المُنصفة الرائعة، فيدفع كل عن نفسه، ويترك سواه ليطلب او لا يطلب ما يشاء، مشددا على هذه الكلمة الاخيرة.
هكذا ابتدأ عبد المنطق فترة جديدة في حياته، فهو لا يجلس في المقاهي المغلقة ويُفضل عليها تلك الشعبية المفتوحة، واذا ما اصرّ اصدقاؤه، على اللقاء به، تعمّد ان يحضر قبلهم ولو بدقائق، وعندما كانوا يحضرون واحدا تلو الاخر، كان يُحضِّر اجابته الجاهزة على اي سؤال يوجهه اليه احدهم، فاذا ما سأله عما يريد ان يشرب.. اجابه انني سبقتك، اما اذا ما عاكسته الظروف والطرق، فتأخر في الحضور، واتخاذ مجلسه بين اصدقائه، وتجرأ احد اصدقائه على سؤاله عما يود ان يشرب..، فانه عادة ما كان يقول له: بعد قليل اطلب ما اريد، وعندما كان يلح عليه احد الجالسين، فقد كان يرد قائلا: لقد امتلأت بالماء.. من الصبح وانا اشرب حينا القهوة وآخر الشاي.. ناهيك عن الماء.
اما في بيته وبين افراد اسرته، فقد كانت مواقفه اكثر وضوحا واشد حدة، فاذا ما اراد احدهم شيئا بسيطا متواضعا، فانه يرفض ان يقدّمه له، بادعاء انه عليه (من يريد) ان يتدبر اموره، وانه (عبد المنطق)، ليس مصرفًا له ولن يكون، اما في الحالات الصعبة، مثل حالة تعرض احد هؤلاء للسجن بسبب دين لم يسدّده، او دفع بدل ايجار بيت لم يتمكن من دفعه فبات عرضة للطرد منه، او حتى شراء طعام، فقد كان يدق على صدره ويدفع كل المطلوب منه وفوقه حبة مسك، وحدث ذات واحدة من هذه المرات ان احد اقاربه اللزم تعرّض للسجن جراء عدم تسديده دينا محرزا، فبادر من فوره لدفع المبلغ كاملا، وعندما حضر صاحبه واسمعه كلمات مفادها انه سيعود الى بيته راجلا وسيرا على القدمين، لأنه لا يملك النقود المطلوبة لعودته تلك مستقلا الباص، اصطنع البلاهة وعمل حاله مش سامع ولا عارف، وترك المحروس المقصود يولّي راجلا في الليل والامطار، وعندما سألته عن سبب دفعه المبلغ الكبير وتردده في اعطاء المبلغ التافه الصغير، اوجد منطقا خاصا به، مفاده انه في حالة دفعه المبلغ الكبير، اراد ان يُشعر من دفعه عنه انه ليس وحيدا في هذا العالم، اما في الحالة الثانية عندما تركه يعود الى بيته بصحبة الليل.. البرد والامطار.. فقد اراد ان يعلمه درسا في الحياة!!
تصرفات عبد المنطق غير المألوفة.. الغريبة والمستهجنة هذه، تسبّبت له قبل سواه في الكثير من الازعاج حتى انه قال لي ذات صفاء جو وهداة بال انه يعي ان ما يفعله هو الخطأ عينه الا انه يفعله مرغما، لهذا ما ان وقع كتاب" اختراع العزلة"، للكاتب اليهودي الامريكي بول اوستر بين يده وقرأه باهتمام شديد، حتى وجد فيه نوعا من الخلاص النفسي، ذلك انه اكتشف اوجه التشابه الفظيعة بينه وبين والد اوستر المتوفى للتو، فالاثنان، والد اوستر اليهودي التائه وهو عبد المنطق الفلسطيني المهجّر، يشعران بنفسية الانسان المطارد، ويحرصان على الدنيا اكثر مما يحرصان على الآخرة، وكل منهما له عالمه الخاص به والمفضل: عالم العزلة المخترعة.
خلال علاقتي المتواصلة بعبد المنطق مدة نحو الاربعين عاما، حاولت اكثر من مرة الابتعاد عنه، كما فعل اصدقاء آخرون.. واحدا تلو الآخر، الا انني لم اتمكن، فقد كنت اعرفه اكثر من سواي، واعرف داخله الدافئ الحنون، وحتى عندما كنت ابتعد عنه، فقد كنت لا البث ان اعود اليه محبا مشتاقا، وكثيرا ما كنت استدرجه الى هذا المقهى المغلق او ذاك المطعم المغلق بطبيعته، وادعوه دون ان اسأله، الى ما اراه مناسبا لي وله، وفي المقابل لهذا.. كثيرا ما كنت اشعر به يكاد يتميز غيظا وغضبا.. نقمة ورفضا.. غير ان معزته لي، وهذا ما كنت اشعر به، عادة ما كانت تكبح جماح غضبه هذا.. في العزومة الأخيرة، وهي السبب المباشر لكتابة هذه القصة، سألته عن سبب حرجه مني.. فانتصب على رجليه وسط المطعم.. غير عابئ بأحد من الموجودين فيه.. وانفجر قائلا: لقد ذبحني ابناء عمنا.. اليهود.. منذ اكثر من سبعين عاما وانا اموت.. يوما.. اثر يوم..