قرأت رواية "أوراق خريفية" للروائي محمد عبد الله البيتاوي(تحتوي 300 صفحة، دار الفاروق للثقافة والنشر النابلسيّة؛ صدرت له مجموعات قصصيّة: "دعوة للحب"، "مرسوم لإصدار هويّة" و"أوراق منسيّة"، وثُلاثيّة روائيّة: "فصول من حكاية بلدنا: "المهزوزون"، "الصراصير" و" شارع العشاق").
بطلة الرواية "غادة" منفتحة وتحرريّة بأفكارها وتصرّفاتها إلى درجة الإباحيّة في عصر العولمة، رغم المجتمع التقليدي الذي يحيطها، تلجـأ إلى الإغراء الجنسي لترضي شبقها وغرورها في طريقها لتحقيق أحلامها الثقافيّة وتصير كاتبة يُشار إليها بالبنان، تُغري زميلها الجامعي والثوريّ شوقي، مديرها في العمل، زميلها في الشغل عامر، جيرانها...والأديب.
الرواية "محليّة" بموضوعها، شخوصها ومكانها، لا يمكنها أن تحلّق لأزمنة وأمكنة أخرى بعيدًا عن فلسطين، وكذلك بالنسبة للغتها وحواراتها المحكيّة؛ تتناول الواقع الجديد ما بعد انتفاضة الأقصى وما آلت إليه حالة الشارع الفلسطيني بعد أن تبدّى الوهم الأوسلويّ الذي أجهض النضال الشعبي وخلق فوضى عبثيّة، سبّبها الاحتلال وطوّرها كومبرادوريّو أوسلو ومرتزقته الذين باتوا يلهثون وراء الفُتات ومصالح شخصيّة دنيويّة لا علاقة لها بالوطن وتحريره.
يتجوّل الكاتب بكاميرته ليُعرّي المجتمع ويُسقط ورقة التوت عن موبقات مجتمعيّة ساقطة، يرفقها بالجنس والخطايا للإثارة والتشويق محطّمًا تابوهات مسكوت عنها.
غادة الجامعيّة تنضم لحركة فتح، رغم ميولها الفكريّ والعقائديّ للجبهة الشعبيّة، لتتبع حبيبها الناشط الفتحاويّ القياديّ شوقي وتمارس معه الجنس، يسلبها بكارتها ليهرب إلى أمريكا، كغيره من القادة الانتهازيين ليكمل دراسته، يتركها في متاهة "فإنني لن أنسى يومي الأخير معه.. لقد أمضيت معه أكثر من ثلاث ساعات ارتشفنا فيها الحب حتى ثملنا.. وغادر على أمل اللقاء في اليوم التالي.. ولكن اليوم التالي لم يأت أبدًا.. فقد اختفى، وكان عليَّ أن أبذل قصارى جهدي كي أنسى ما كان، ولكن دون جدوى"، ترفض كلّ من يطلب يدها لتحافظ على كتمان سرّها الدفين وخيبتها من تصرّف "حبيبها"، والسؤال الذي يلاحقها ملازمًا: "هل أملك مؤهّلات الزواج بعد أن فقدت عذريّتي منذ زمن بعيد في مجتمع لا يرى عند البنت إلا إثبات عذريّتها ليلة الزفاف؟"(ص.18). ظلّ شوقي وفِعلته يلاحقانها ليل نهار، في يومها وحلمها، ليصير شوكتها بدلًا من "شوقيها" ويفقدها طعم السعادة؛ تحاول تعويضه بأديبها وحضنه الدافئ؟!؟ يمنحها المتعة والسعادة ويصير خابيتها ومتنفّسها لتفرّغ خطيئتها في حضنه.
يتناول الكاتب قضيّة الفساد المتفشّية،السيّارات المسروقة وانفلات السلاح البلطجيّ للعربدة، ظاهرة الطخّيخة، وكلاء وعملاء سلطات الاحتلال والامتيازات التي "يستحقّونها" مقابل خدماتهم وإثرها على تشويه النضال الوطني وعرقلته "وما أكثر الصبية الذين باتوا يعتقلون عند الحواجز الاحتلالية وهم يحملون أحزمة ناسفة... كلّ الناس، وكلّ الفئات، وكلّ مسؤولي التنظيمات أعلنوا احتجاجهم على تكليف الصبية بمثل هذه الأعمال، ولكن لا حياة لمن تنادي، حتى بات الشك واضحًا في أن من يقوم بذلك إنما هم الإسرائيليون أنفسهم بواسطة رجال مخابراتهم، وقد يساعدهم في ذلك عملاؤهم الذين ما زالوا يعبثون بالشارع الفلسطيني، دون وازع أو رادع"(ص.161)، والعملاء يتكاثرون كالفطريّات بُعيد الشتوة الأولى، تشويه سمعة المقاومة واختراق صفوفها بفظاظة.
يتغلّب على الكاتب كونه ناشر فيحاول أن يعظ الكتّاب ويرشدهم في فنّ الكتابة وآليّاتها فيقول على لسان بطلته: "الكاتب الموهوب لديه قدرة على التقاط الأمور الصغيرة، التي تبدو تافهة في أعين الآخرين، ولكنها في الواقع هي المحرّك الرئيس للأحداث.. فالكاتب قد يمرّ بحادث مروع، لا شك بأنّه يتأثر به، ولكنّه لا يكتب عنه قصّة"، ونصيحته "إن الكتابة دون تجربة لا تؤدي إلى نتائج سليمة، وإنما تسلمنا إلى محاولات تخيّلية فجّة.. قد نتوهّم شيئا آخر مغايرًا لكل النتائج التي نكون قد توصّلنا إليها"(ص. 119)، وتكون نصيحته: "حريّة الكاتب أساس إبداعه، وإلّا بات صدى للآخرين".
كما ويتناول قضيّة التحرّش الجنسي في الحارة والشارع ومكان العمل وكأنّي به يقول أنّ الحاجة تبرّر الوسيلة وبإمكان الفتاة الشرقيّة أن تنجح إذا غامرت وقامرت، وباستطاعتها أن تصير كاتبة مشهورة إذا عبرت سرير "صاحبها" الأديب ورفاقه، وطموحها تكسر شوكتها لتلبّي شهوات ونزوات مَن حولها مَن الذكور المتعطّشين لجسدها.
يتناول حياة جيل الشباب والوهم المرافق له بعد أوسلو، خذلانه وفقدانه للحريّة والأمل بها ليصير مستقبله أوراق خريفيّة متساقطة في مهبّ الريح، فالانتفاضة الأولى وبراءتها تتحوّل إلى مصالح فئويّة وأنانيّة بعد الانتفاضة وفرسانها من العائدين ومقرّبيهم نسوا بأنّهم وصلوا كراسيهم على أكتاف الشهداء والسجناء الذين مهّدوا لهم الطريق.
يصوّر الكاتب الحياة اليوميّة ويعرّي المجتمع ليفضح الشوائب، أوهام الانتخابات وديموقراطيّتها، الحملة الانتخابيّة البائسة، التخوين والعمالة والإسقاط الأمني، صعود التيّار الديني مُمَثّلًا بحماس والحجاب المرافق، سطوة الاحتلال واجتياحاته المتكرّرة فهو الحاكم والآمر الناهي رغم الوهم الأوسلوي الذي جعل البعض يتوهّم بأنّه صاحب سيادة.. ليرفع السلاح في وجه أخيه!!
الرواية نابلسيّة بامتياز، بزمانها ومكانها وشخوصها، عاداتها وتقاليدها، لغتها المحكيّة وحواراتها، توليفتها الاجتماعية والسياسيّة والطبقيّة، وللمكان حضور طاغٍ في الرواية.
الكاتب يعشق الأشجار ودلالاتها؛ جاء في الإهداء: "إلى شجرة السرو الحرجية التي تسمو ولا تتنازل عن أوراقها"، ويجعل الرواية من ثلاثة فصول: "أوراق التوت" وسقوطها يوحي بسقوط بطلته حين تفقد عُذريّتها وتُعرّيها، "أوراق التين" العريضة وسقوط المجتمع بأكمله في مرحلة الضياع ما بعد الانتفاضة الثانية وتورّطه في أزمات محليّة واجتماعيّة وسياسيّة، أمّا "أوراق الورد" فتمثّل الحلم بمستقبل أفضل، فأنت ملك أحلامك ولا سيطرة لأحد عليها: "لم يبق إلّا الحلم وأوراق الورد، أنثرها بين صفحات كتبي ودفاتري.. لا أحد يستطيع أن يمنعني من الحلم.. ولكن"(ص.182)
لغة الرواية سلسة وانسيابيّة، واستعمال المحكيّة في حوارات أبطالها جاء موفّقًا، وكذلك الأمر تتبيلها بالأمثال الشعبيّة التراثيّة التي صبغتها بالمصداقيّة، وعلى سبيل المثال، لا الحصر، " قالوا لفرعون من فرعنك، قال ما إلقيت حدا يردني"، "البنت إن ضحكت وبان نابها، إبطحها ولا اتهابها"، "لا اتحنبلها أكثر من اللازم"، "وساعة لقلبك وساعة لربك"، "إكفي القِدْرة على تُمها، بتطلع البنت لأمها"، "الدرب إللي إتودي ما إتجيب"، "الشهر اللّي مالك فيه، إتعدَّش أيامه"، " صحيح إنو اللّي استحوا ماتوا"، و "صحيح السلاح بإيد الخرى بجرح" وغيرها.
لوحة الغلاف تصوّر أوراق خريفيّة متساقطة، غاب صاحبها (وهنا ألوم الكاتب، كونه ناشرًا أيضًا، غيّب من رسمها/صمّمها ولم يعطه حقّه) وتساءلت: هل هي "سقوط" غادة وفقدانها عُذريّتها؟ أو هو سقوط الحلم الأوسلوي الذي تبخّر وتحوّل إلى وهم وسراب تدوسه أقدام المحتلّ ليل نهار والمنتفعون منّا يتلذّذون وكأنّ بصاق العدوّ مطرًا نيسانيًا منتظرًا؟
يغلق الكاتب دائرة الإهداء إلى شجرة السرو الحرجيّة فيقول على لسان غادته: "أدركتُ بأنّني ورقة خريف سقطت في غابة مليئة الأشجار الحرجيّة التي تسامت حتى حجبت عنّي النور ولم يبق لي إلّا رطوبة المكان، فبدأت خطواتي تتعثّر حتى بتُّ وجلة متردّدة بعد أن فقدتُ كثيرًا من الحماس.." وكلّنا يعرف أن الأشجار الحرجيّة تُزرع في الأراضي غير الصالحة لزراعة الأشجار المثمرة ويمكن الاستفادة منها...كحطب للمواقد!!
وأخيرًا...ما راحت إلّا عليك يا غادة!