(1)
رغم هدوئه، إلا أنّه عندما يتكلم، يُستشفّ من صوته-الذي ينبئ بأنّه مهموم-صخبٌ دفين. لا يطفئ سيجارته أبدًا. يحتسي القهوة مهيّلة على الطريقة العربية. قبل عشرين عامًا ونيّف، عمل يوسف في جمعيّة تنادي بالشراكة اليهوديّة العربيّة، وشاءت الصدف أن يتعرّف على شاب يهودي من أصل أمريكي اسمه بيتر، يفيض رجولة، طويل القامة متورّد الخدّين تبدو عليه آثار التغذية الجيّدة. بيتر من عائلة ثريّة وأحد المتبرّعين لهذه الجمعيّة وغيرها من الجمعيّات الأخرى.
توطّدت علاقة قوية بين يوسف وبيتر على مدى سنوات من الشراكة، وفي حالة صفا بينهما، اعترف بيتر بوهن ليوسف بأنّه مثليّ الجنس. بلحظة، فقدَ يوسف سحنته الهادئة وتورّد. علقت القهوة في بلعومه. فقد تبيّن له أن المظهر خدّاع، وبدأ يعتقد بأنّ بيتر يصادقه لغاية في نفس يعقوب، لكن المفاجأة والغريب بالأمر أن بيتر بعد فترة وجيزة، تزوّج من شابة يهوديّة من أصول مغربيّة. مشلولة ومقعدة على كرسي متحرك، وهي أقلّ منه شأنّا من جميع النواحي ولا يوجد أي توافق بينهما.
(2)
فيما بعد اشتغل يوسف مديرًا لمؤسّسة تعنى في رفع مستوى التعليم في المجتمع العربي وعمل بجدارة لبناء برامج تعليمية وتثقيفية بديلة لما هو قائم حاليًا. كان رأسا كبيرا في كل شيء، والله أعلم ما كان يحمل ذلك الرأس من علوم الدنيا ومعارفها. عمل موجّها لطلاب ليختاروا مستقبلهم التعليمي، وبعد عمل مضنٍ لسنوات عديدة نجح ببناء مؤسّسة تعليمية متينة، وكان فيها المرجع لكل مشكلة، والحكم في كل خلاف لما اتصف به من حكمة في التدبير وصلابة في الحقّ.
شاءت الصدف، أن تنضم إلى المؤسسة شابّة ضريرة تدعى حنان. تتعثر بخطواتها وتتحسّس على وقع عكازها طريقها إلى المؤسسة ولها ثلاثة أبناء. كان يوسف حين يراها تترجل من الباص لاصطحاب ابنائها، يمسك بيدها ويرافقها مع أولادها من وإلى محطة الباص يوميًّا.
كثيرًا هي المرّات التي كان يوصلها إلى بيتها بسيّارته، رغم ان المسافة من المدرسة إلى بيتها ليست قريبة، لكنّ يوسف لم يبال وقدم لها المساعدة دون كلل. أحيانا كان يقدم لها أغراضا اشتراها لزوجته ويُنزلها أمام بيتها، ان كان ذلك خضروات وخبزا وحليبا وما شابه. لا تعد ولا تحصى المساعدات التي قدمها يوسف لحنان، ولأنّها كانت مختصّة بتوجيه وارشاد الاطفال في السن المبكّرة، حاول ضمها إلى المؤسّسة التي يعمل بها بشتى الطرق، فأحيانًا كانت تقدّم المحاضرات وأحيانًا تعمل مع الاطفال وأحيانًا أخرى تشارك في بناء برامج العمل. باختصار شديد، أدخلها في عدّة أطر وعمل على تقوية شخصيتها حتّى باتت شخصية إدارية في الجمعيّة وفقأت حصرما في أعين الحاسدين.
(3)
بعد مضي عدّة سنوات بدأت مجموعة من العاملين الكسالى في الجمعية بالسعي للإطاحة بيوسف من منصبه وحياكة المؤامرات بمكر خبيث. استمرت الأفاعي تفحّ وتلسع حوله إلى أن تمّت الاطاحة به، وتبيّن له فيما بعد، بأن حنان هي واحدة من بين هؤلاء المتآمرين ضدّه، يشغل بالها المكسب والخسارة، ان تربح المال وان تُثبت نفسها ولو على حساب الآخرين. تميّزت بعدم شفافيتها، تداهن وتكذب وتغش وسممها الحسد، فاقتربت من كل مَن عمِل على إفشال يوسف في منصبه. انتمت حنان لمجموعة نسوية معروفة وإحدى قائدات هذه المجموعة أرادت رئاسة المؤسّسة. أدركت حنان بأنّ المعادلة في المؤسّسة ليست لصالح يوسف، فوقفت بجانب المجموعة القويّة ونشرت بحكاياتها الفتن. رغم الكمّ الهائل من التآمر والدسائس ضد يوسف، لم يفتح فاهه بكلمة تجاه حنان واصدقائها، بل ترك العمل بهدوء وعاد أدراجه إلى بيته، فيوسف يحب حياة السلم الهادئة والقهوة المهيّلة على الطريقة العربيّة ويوزع وقته بين التنزه والمطالعة وعمل الخير.
(4)
عزيزي القارئ، أنت تسأل: ما العلاقة التي تربط بين بيتر ويوسف وحنان وهذه الجمعيات؟
انتظر للحكاية بقية...
***
يا للحسرة، حنان الشابة الضريرة كما ذكرت لكم سابقا لا يشغل بالها سوى ملء جيوبها الخاصة بالأوراق المالية، فعندما اختارت شريك حياتها، اختارت شابا يهوديا اشكنازيا صهيونيا أكثر من هرتسل، وبعض أفراد عائلته يتبوؤون مناصب مهمّة في المكاتب الحكومية.
رزقت منه بثلاثة ابناء وسمتهم اسماء ممكن ان تكون عربية وعبرية وهم يهود التربية والمنشأ. والغريب بالأمر بأن زوجها مثليّ الجنس.
(5)
لي عدّة أصدقاء من مثليّ الجنس، ذكورا وإناثًا، وعندما كنت مع أحدهم نحتسي القهوة في حيفا، شاءت الصدف أن يذكر أسم حنان في حديثنا، وعندما سألت صديقي عنها وهل يعرفها، على الفور قال لي: تقصدين الجلغمة؟
سألته: ما معنى كلمة جلغمة؟
فقال بصوت ميت:
هو الانسان الأناني المتآمر المداهن ذو الكيد والمكر. الذي يحسب كل شيء بالربح والخسارة.
وهل تعرف هذه الشابة حق المعرفة؟
أجاب: ها، ها... اسأليني أنا، فأنا أعرفها من ألفها إلى يائها!
كانت ضحكته لها معنا آخرا ويستدل من هذه الضحكة الرنانة بأنّ له حكاية أخرى مع حنان وجلغمتها. لكنّه رفض الحديث عنها لأنّها زوجة صديقه، وأقفل الموضوع بلا وأوأة، أو فأفأة، أو لفلفة للكلمات قائلا: تبًّا للشهادات!