"الفار الهامل"
في هذا الاعتكاف القسريّ الذي لا دين فيه ولا ربّ له، في هذا الحجر الذي سمّوه بالصحّيّ، وما هو إلّا حجر مرضيّ، في هذا أو ذاك ولثقل الظرف العصيب يبحث المرء عمّا يروّح عن النفس ويخفّف من معاناة العزلة والبعد عن الحركة والنشاط العامّ والخاصّ، وعمّا يقلّل من الإقبال على الطعام والسفر الدائم ما بين المطبخ والحمّام وما بين السخّان والبرّاد، وعمّا يشلّ من قدرة النهار على التطاول ومن قدرة الليل على إرخاء السدول على النفس المظلمة أصلًا. (واللهمّ أعنْ من كان مثلي ليس بيتوتيًّا بالمرّة)
القراءة عمل نبيل، مفيد وممتع، ولكنّك لا تستطيع أن توصل طول الليل بطول النهار في القراءة، ومثلها الرياضة البيتيّة التي تشبه الركض الموضعيّ "مكانك عدّ" وكثير من أمور التسلية التي حرمتنا منها السيّدة كورونا - محقها الله وحجرها وحشرها في جهنّم مع الكفّار والشياطين والأشرار - بما فرضته من حجر مرضيّ في البيوت، وبين جدران بلا قلب تكتم أنفاسنا وتطبق على أرواحنا وبلا وازع من ضمير.
ولله درّ "الواتس آب" ولا فَضّ الله فم التقاطه لمواقف جميلة ومعبّرة، منها المضحك ومنها الصادم، ومنها ما ينطوي على معلومات مفيدة عن الوباء وإرشادات نافعة لدرء مخاطره والحدّ من استشراء خبثه وانتشاره، ومنها ما ينطوي على مفارقة فنيّة تخلب العقل والوجدان، ومنها ما يشفّ عن "قفشة" حيويّة مضحكة، ومنها ما يعتمد الصوت أو الحركة، ومنها ما يكشف سرَّا أو يفضح عورة، ومنها ما يستدرّ عطفًا أو يحرّك إحساسًا إنسانيَّا، ومنها ما يجعلك تبكي أو تضحك أو تبكي وتضحك في آن واحد، ومنها ما يثير اشمئزازك لتقذف كلّ ما في بطنك، فتعود إلى استئجار تاكسي لتتكبّد مشقّة السفر بين المطبخ والحمّام وبين السخّان والبرّاد، كما تكبّد ذلك التلميذ المشاغب في الفصل مشقّة السفر بين المقعد والسبّورة. وفي جميعها حقيقةً الكثير من الترويح عن النفس والتنفيس عن الروح والتخفيف عن القلب في هذه الأجواء الثقيلة، فقد سدّت جانبًا كبيرًا من الفراغ الذي يساكننا كشيطان عدوّ مبين لا يُرى، كما فيروس الكورونا اللعين، فوجدنا في تلك المقاطع المصوّرة القصيرة (السرطونات) التي نتبادلها مع الأصدقاء والأقرباء خروجًا من سرطان الرتابة والروتين الذي يفتك بنا في هذا العزل "الصحّيّ". فمن عزف منفرد على قانون منشر للغسيل إلى "فغم" بيضة نيئة كتفاحة "دلشز" أو "قرشها" كقطعة كارميلا مركّزة الكاكاو فتستمرئ بنهم أوّلًا وتمجّ بقرف ثانيًا وسريعًا، ومن معلومات جديّة وأليمة عن الأوضاع المأساويّة في إيطاليا إلى محاولات حثيثة لدى الدول الإنسانيّة لاكتشاف علاج ناجع، ومن تعاطف إنسانيّ كوبيّ إلى تشفٍّ وحصار حيوانيّ أميركيّ، ومن طرفة تتناول العلاقات الأسريّة والخلافات العائليّة، مثل تلك السيّدة التي لحقت زوجها بالساطور لأنّ السيّدة كورونا أقعدته في البيت وصار يتدخّل في كلّ شيْ ليملأ الفراغ، أو ذلك الرجل الذي عاد طفلًا بين ساعة وضحاها فتسربل زيّ الطفولة لأنّ الوزارة وعدت بتوزيع خمسمئة شاقل لكلّ طفل خلال هذه الأزمة، أو أولئك الرجال الذين انغمسوا في شغل النسوان، فرقّوا العجين وقطّموا الملوخيّة وحشوْا الكوسا ولفّوا أوراق الدوالي، أو إلى مقابلة صحفيّة مع طبيب لا يُدرى من أين "لطش" شهادته، أو شيخ أرخى سدول لحيته الشعثاء إلى صدره، يقف على منبر، يعتبر مسيلمة الكذّاب قدّيسًا طاهرًا بالمقارنة به أو من الصحابة الأوائل الذين أعزّ الله بهم الإسلام في فجره قبل أن يشتدّ عوده، أو إلى صورة تعكس استغلال الأزمة للاحتيال والسرقة، ومن أغنية لعبد الحليم يقول فيها: "أيّ طلعة برّة .. لا لا لا"، أو مقطع يحمل نكتة تسأل فيها جارة جارتها: هل تحبّين سماع أغاني "أمّ جرثوم"؟ فتجيب الجارة: لا! أنا أحبّ سماع أغاني "فيروس"، أو مقطع رجال الشرطة وهم يضربون المصلّين بالعصيّ لأنّهم امتثلوا للأمر الإلهيّ بالصلاة وخرجوا عن الأمر الكورونيّ بالحجر الصحّيّ، أو مقطع أولئك المشيّعين الكذّابين الذين تحجّجوا بحمل ميّت حيّ لقبره ليخرجوا من قبرهم "الصحّيّ" فانكشف أمرهم ورموْا التابوت في الشارع فخرج منه ميّت يضحك ويعدو بعيدًا، ومن أغنية جميلة تدعو إلى النهوض من الموت وبعث الحياة إلى صور الموت في المستشفيات وأعداد الإصابات المتزايدة.
كنت وصديقي وابن بلدي البروفيسور إبراهيم طه كثيرًا ما نتبادل هذه المقاطع المصوّرة، وإذا أردت الحديث عن عدد محدّد لهذه المقاطع مع ب. إبراهيم ومع غيره من الأصدقاء، فإنّني لن أستطيع حصر عدد تلك المقاطع، ففي غضون الأسبوعيْن الأخيريْن، ومنذ بدأ الحجر الجدّيّ، لا أبالغ إذا قلت إنّ العدد قد تعدّى المئات ولا أريد أن أقول الآلاف.
وقد تتساءلون: "طيّب ما علاقة كلّ ما كتبْت حتّى الآن مع عنوان هذه الخاطرة ذات المقدّمة الطويلة وما شأن ذاك "الفار الهامل"؟ ولا شكّ في أنّ التساؤل "في محلّه وعلى الوجع". ولكن صدّقوني إنّ ما كتبته حتّى الآن لا يساوي شيئًا بدون ذاك الفأر، وهو على "علقته السخنة" مع صاحب المتجر فأر ذو شأن كبير ويشار إليه بالبنان، وقد توافقت بالرأي والموقف مع صديقي ب. إبراهيم على أنّ هذا المقطع المصوّر لذلك الفأر الذي يمكن أن تصفه بالهامل اللعين والضعيف المسكين، وبالشرير الخطير والذكي الكبير والكافر الغبيّ والصغير، ولعلّه يستطيع بفعلته وعلقته أن يستدرّ عطفك وتماهيك وأن يستنفر غضبك عليه وتجافيك له في آن واحد. قلت توافقت أنا وصديقي على أنّ هذا المقطع هو الذي تربّع على عرش المقاطع طرًّا، في الشكل والمضمون وفي السيناريو والحوار الأحاديّ الجانب ودقّة التصوير التي تصل حدّ تصوير مشاعر البطل والهدف الفنّيّ أيضًا، ولو أعلنت اللجنة السويديّة عن جائزة "نوبل" هذا العام تعطى في هذا المجال، كما تعطى في مجالات العلوم والآداب والسلام لمنحت الجائزة لهذا السيّد الفأر الشهير العظيم، ولا عجب أنّ ذاع صيته فبلغ بلاد السويد وربّما ما بعد بعد السويد من الدول الإسكندنافيّة. وإليكم قصّته كما وردت في المقطع المصوّر "والحكي مش مثل الشوف".
كان لتاجر متوسط الحال متجر متوسط الحجم، سعيدًا به وبزبائنه من أهل حارته ومحيطه، ومن عادة ذلك التاجر أنّه كان يحتفظ بدفتريْن للتسجيل: الأوّل لتسجيل الديْن، لأنّ زبائنه كانوا من اللي "ع قد حالهن" والدفع إمّا "ع الموسم" أو "ع القبضة"، والدفتر الثاني يسجل فيه الدفعات التي يتسلّمها "كاش"، فعنده هذا محسوب وهذا محسوب. والحقّ يقال أنّ المتجر على قلّة حجمه احتوى على جميع المتطلّبات اليوميّة من خضار وحبوب وأجبان وحاجيّات أخرى عديدة. بين حين وآخر، وحين تهدأ الحركة ويخفّ عدد المبتاعين، كان التاجر يسمع "خرفشة" ما، أحيانًا ينصت ويسترق السمع وأحيانًا "لا يوخذ ولا يودّي"، وفي يوم ما سمع "الخرفشة" تقترب، وكأنّها أقرب إليه من حبل الوريد، أو أقرب من الصبح، "أليس الصبح بقريب"! وعندما كان يجلس على الطاولة قرب الجارور الذي يضمّ الأموال والدفاتر، يحسّ أنّ صوت "الخرفشة" بين رجليْه أو أقرب عليه من ذلاذل ثيابه، فيحار وتذهب به الظنون إلى مذاهب شتّى.
وعود على بدء، أو "بنرجع مرجوعنا" إلى الأساس، حيث اهتدى "الفار الهامل" على هذا المتجر، وكان أن استوطن كاحتلال بغيض في زاوية نائية قرب الجارور، لا تدركه العيون ولا تراه إن شئت "لا بسراج ولا فتيلة" كأنّه فيروس الكورونا اللعين! ماذا استحسن ذلك الفأر بهذه الزاوية؟ ومع من انسجم هناك؟ لا أحد يعلم حتّى لو كنت راويًا كليًّا عليمًا بكلّ شيء! وكان التاجر قد أحسّ "بخرفشته" وصأيه ذاك اليوم، فخطر بباله أن يكون فأرًا، فيقول في نفسه: "لا بأس فالمصيدة موجودة، لكن كيف يكون فأرًا والأجبان غير "منتوشة" والحبوب غير منعوفة" والخضار على حال ترتيبها، ولا مسّ من سوء في أغراض المتجر! استغرب التاجر الأمر فمرّة يقول فأرًا ومرّة يقول غير ممكن، والمصيدة المنصوبة لم تجدِ فتيلا. وظلّ الفأر على استيطانه، والحقيقة أنّ مثَل ذلك الفأر كمثَل تلك القرية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، في سورة النحل (الآية 112) "فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ"، وهذا الفأر كان في متجرٍ آمنٍ مطمئنٍّ، الرزق حوله في كلّ مكان، الحبوب من عدس صحيح ومجروش وحمّص من مقسوم وتامّ وفول من بلديّ وقبرصيّ وقمح من نيء غير مسلوق وبرغل مسلوق وفريكة من كاملة خضراء ومطحونة يابسة وسميدة من رفيعة للكبّة وغليظة للمجدّرة، والمكسرّات من فستق شاميّ حلبيّ وفستق سودانيّ ومن لوز خشن مقشور إلى لوز "فرك" بقشره ومن جوز أميركيّ كالح إلى شرقيّ غامق، ومن الخضار والفواكه التي تقوّي المناعة ما لذّ ولان وطاب، ومن الأجبان جبنة عربيّة إلى بلغاريّة ومن جبنة صفراء إلى بيضاء ومن خضراء إلى مكبوسة بالملح ومن كشكوان إلى مقدّحة ومن فيها عفونة إلى جبنة رومي ومن جبنة مبروشة "للقطايف" إلى أقراص كاملة للكنافة، خيرات الله "على مدّ عينك والنظر". "وبفركة رجل" يستطيع ذلك الفأر أن يأكل من أنواع الأجبان ما طاب، "وبفركة يد" يستطيع أن يلتهم من الخضار والفواكه ما لذّ، "وبفركة سنّ" يستطيع أن يقضم من المكسّرات والحبوب ما لان. لكنّ هذا الفأر الذي كان آمنًا ومطمئنًّا بكلّ ذلك الرزق الرغد وبكلّ تلك النعم التي أنعمها الله عليه سلك كتلك القرية الكافرة، فكان لا بدّ من أن يُذيقه صاحب المتجر لباس عقاب التعلقيتيْن: الأولى الصغرى والآخرة الكبرى.
في ساعة متأخّرة من ذلك النهار سمع التاجر صوت المصيدة وقد "فعطت" قرب الجارور ففتح الجارور وإذا بدفتر الديْن قد تمزّق شرّ ممزّق وتفتّت الأوراق إلى مُزَق وفتات غير قابلة للتجميع ولا للقراءة، بحيث يصعب الآن تحديد أسماء الدائنين ومبالغ الدين، أمّا الدفتر الثاني فلم يمسسه أذى أو سوء، فهرول التاجر والغضب يتطاير من وجهه كأنّه شرار ينبعث من زناد، وإذا بالفأر قابع في زاوية المصيدة القصوى كما كان يستوطن تلك الزاوية قرب الجارور، - لماذا تحبّ الفئران الزوايا! - كان يقبع كمسكين يتسوّل لقمة خبز، ألم يذقْه الله لباس الجوع! فنظر التاجر إليه بعصبيّة ظاهرة، وما كان منه إلّا أن مدّ يده إلى قاع المصيدة وتناول الفأر على نجاسته، وأمسكه من أذنيْه ودلّى جسده إلى أسفل، فبدا كمحكوم عليه بالإعدام شنقًا، وقال وأنا الآن أقتبس حرفيَّا على ذمّة الراوي الذي نقل كلام التاجر عبر "السرطون" - لا فُضّت أفواههم -:
"قدّامك الفستق وكلّ أنواع المكسّرات لم تأكل منها يا سافل!
كلّ أنواع الجبنة بمتناول يديْك وما خمشت قرصًا أو "فرضة" منها يا لعين!
إنت فار إنت، يا كلب الكلاب قدّامك كلّ الخضار الطازجة والفواكه قطف اليوم،
ما أعجبك ولا ذقتها ولا قدّمت عليها!
قدّامك دفتر المدفوعات ولا مسّيته ولا حسّيت بوجوده ولا تطّلعت عليه يا هامل!
ما لقيت إلّا دفتر الدين توكله!!! وِلَكْ والله لأعلّقك التعليقة الكبيرة،
هاي إسّا التعليقة الزغيرة والله لأصلبك يا هامل يا ابن الهامل"!