بالعموم
عندما ترى بأمّ العين وتلمس بأمّ الأصابع العشرة ما لوباء "كورونا" الشيطانيّ اللعين والخبيث، من أثر سلبيّ على مجمل حياتنا العامّة والخاصّة وعلاقاتنا الاجتماعيّة، ستدرك البون الشاسع بين الرجال الذين يصنعون الظروف والرجال الذين تصنعهم الظروف، ستعي الفرق بين الفضائل والرذائل وبين المناقب والمثالب وبين الطرفيْن: النقيض والنقيض: الناس العظماء الأعزّاء والخالدين كمياه الكوثر وحوض الفردوس والناس الخانعين الأذلّاء العابرين كمياه المصارف والمجاري. في هذه الأيّام الرمضانيّة والليالي الفضيلة بالذات والتي جاءت ملفّعة بوباء الكورونا، فانقطعت صلة الرحم بين الأخوة والأهل، وانحرم الناس من ولائم التكافل الجماعيّة واللقاءات والسهرات، لقد جاء رمضان هذه المرّة "مُكَوْرَنًا" فحرمه الوباء المهيمن أنس لياليه وصخبها المحبّب وفوانيسه المتّقدة نورًا وجمال سهراته وصلواته وتراويحه في المساجد ونشاطاته الأدبيّة وأمسياته الفنيّة والثقافيّة في المنتديات. ورغم ما أتحفتنا به الدراما السوريّة في المسلسل الوطنيّ "حارس القدس" سيرة حياة المطران هيلاريون كبوتشي ونضاله الوطنيّ والتي كتب قصّته حسن م. يوسف، ومن إخراج الفلسطينيّ السوريّ باسل الخطيب، وقام بالتمثيل فيه كوكبة من الفنّانين السوريّين المشهورين ويبثّ على قناة "الميادين"، وعلى الفضائيّة السوريّة، وكذلك ما قدّمته الدراما المصريّة في مسلسل "النهاية" القوميّ الذي ألّف قصّته عمر سمير عاطف وجعل مدينة "القدس" بكلّ أبعادها الرمزيّة والقوميّة والدينيّة والسياسيّة مسرحًا لأحداثها، ومثلّ فيه مجموعة من الفنّانين المصريّين والعرب الشبّان وهو من إخراج ياسر سامي ويعرض على فضائيّات الدراما المصريّة، هذا المسلسل الذي أقلق إسرائيل وأنصار السيسي فاحتجّت وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة وطلبت عدم عرضه بادّعاء أنّه يتنبّأ بزوال دولة "اليهود"، فأجيب احتجاجها وطلبها بالرفض القوميّ القاطع والمشرّف وظلّ العرض سائرًا.
2
ولكّن المسلسلات الرمضانيّة التي هبّت سمومها من الخليج فقد جاءت مدنّسة مصابة بكورونا الخيانة الفنيّة السعوديّة والخليجيّة والتطبيع مع العدوّ والترويج له، ليكون مرحّبًا به في بلادنا المستباحة بالخيانة لكلّ عدوّ مقيت، ومن ثَمّ ليصير شقيقًا إسلاميًّا سنيًّا ومن "عظام الرقبة" والبرهان في السودان، مهد اللاءات الناصريّة الثلاث أكبر برهان، ألا تكفينا السياسة خانت والفنّ كذلك! "شو ناقص الدست بيتنجانة" ولا" قرق صمّيلة أو ثقّالة"وكنّا بعبد فتّاح واحد صرنا بعبدين فتّاح ما شاء الله" وطلع شهاب الدين وأخوه الاثنين الأضرطين وما حدا أضرط من حدا".
ما كرهنا الفنون يومًا، وأقبلنا بنهم على الدراما العربيّة ذات الأبعاد والدلالات والأهداف السياسيّة والاجتماعيّة النبيلة، التي تقدّم وجبات فنيّة دسمة للمواطن العربيّ وترسّخ وعيه لحقوقه القوميّة والإنسانيّة وتعمّق واجب الانتماء القوميّ في وجدانه، في رمضان وفي غير رمضان، وأمّا أن تصبح هذه الدراما بوقًا موجّهًا لنفث سموم التطبيع وهضم الخيانة كهضم صحن من قمر الدين أو كأيّ أمر عاديّ واستيعاب العدوّ كأمر واقع أو كاستيعاب مسألة حساب للصفّ الثاني، خدمةً لدعايته وسياسته الفاسدة والمفسدة فهذا ما يجعلنا "نقرف" الفنّ والفنّانين ونشمئز من هذه العروض، ولا مبرّر للممثّلة الكويتيّة "حياة الفهد" للمشاركة في مسلسل "أمّ هارون" ولا لأيّ ممثّل عربيّ ولا للمخرج المصريّ محمّد العدل، وكذلك الحال مع مسلسل "مخرج 7"لا مبرّر لمخرجه أوس الشرقيّ ولا للممثّليْن السعوديّيْن ناصر القصبيّ وراشد الشمرانيّ ولا
لأيّ ممثّل آخر أو أيّ فرد من أيّ طاقم ساهم في إنتاج هذه المسلسلات وإخراجها إلى النور، لأنّها ملأت قلوبنا ظلامًا وهوى مستوى فنوننا في حضيض وأساءت لذوقنا الفنيّ ولوجداننا العربيّ، لا مبرّر لهؤلاء حتّى لو صحّ ما يقال عن أنّ ياسر عبّاس نجل محمود عبّاس رئيس السلطة الفلسطينيّة هو أحد المموّلين لمسلسل "أمّ هارون"، وإذا ثبتت قصّة ذلك التمويل عن نجل عبّاس، فهذه هي الخيانة بعينها وهذا هو أشدّ العفن السلطويّ الفلسطينيّ، وهنا لا يكفي طوفان من البصاق ولا وابل من الاشمئزاز.
في السياسة نكره الخائن أنور السادات ولكنّنا لا يمكن أن نكره فنّ أنور وجدي، ونكره حسني مبارك وولده الفاسد جمال ولكنّنا لا يمكن أن نكره فنّ حسن حسني وجمال إسماعيل، ونكره بالـتأكيد عبد الفتّاح السيسي "الربيعيّ المغرّد" ولكنّنا نعشق صوت العصافير المسقسقة في كلّ سحر سيشرق "سي .. سي .. سي" والصوت الغليظ والفنّيّ المحبوب لعبد الفتّاح القصريّ. أمّا في السعوديّة خاصّة وهي أمّ الرذائل العربيّة والإسلاميّة وفي الخليج عامّة، فإنّنا نحبّ الشعوب فقط، ونكره السياسيّين من الملك "خادم الحرمين" و"جرّ"، خادم المشروع الصهيو - أميركيّ للهيمنة على البلاد العربيّة، ويا ليته أكتفى بل يريد لهذه المشاريع أن تهيمن على الفنّ والعقل والوجدان العربيّ أيضًا، حتّى أصغر نفر ممثّل في تلك المسلسلات الباهتة، ولمّا
3
لاقى الاتّجاه الخيانيّ السعوديّ أذنًا صاغية لدى الفنّانين، فلا شكّ بأنّهم باتوا مشاركين في جريمة تمرير التطبيع والهيمنة، ولا عاصم لهم أمام طوفان "قرفنا" وبصاق اشمئزازنا، وهم لا يستحقّون بتاتًا أن نهدر على فنّهم الرخيص وقتنا الثمين.
وأمسى وفي وضح النهار وفي عزّ الظهيرة "الفقراء القطاريز" الذين سخّرهم الأراذل والعضاريط من الملوك والرؤساء العرب يستعدي بعضهم "الأخ الصدوق نتنياهو" لسحق الفلسطينيّين عن بكرة أبيهم، فلا يبقى منهم لا "الدومري" ولا "المغبّر"، ألم يقل الشيخ أبو علي سلام الراسي في إحدى مروّياته: "إذا شفت الفقير معجوق قول الغنيّ مسخّرو"، وعندما يصبح مجرّد الوجود الفلسطينيّ لا يقلق إسرائيل اليهوديّة فحسب بل يقلق أشقّاءها من الملوك والرؤساء العرب، وعندما "تعمّ" كلّ هذه الرذائل و "تطمّ" فكيف لا تخطر ببالك الفضيلة وأهلها الأفاضل! كيف لا يخطر الرسول الأكرم محمّد بمكارم أخلاقه والسيّد عيسى المسيح بجلال تسامحه والنجاشيّ بعزّة نزاهته والفاروق عمر بروعة تواضعه وبوّابة العلم عليّ بكرم وجهه والعبد المؤذّن بلال بعظمة ثباته والإمام الحسين برفضه الذلّة والخلافةالملكيّة والقائد صلاح الدين بفتحه
لبيت المقدس والمناضل عمر المختار بقتاله المحتلّين الطليان والمارد العربيّ جمال عبد الناصر بكرامة شموخه وعروبته والثائرة جميلة بوحيرد بصلابة تحدّيها للفرنسيّين المستعمرين! كيف لا يخطر هؤلاء بكلّ بهائهم الإنسانيّ والقوميّ والدينيّ! كيف لا يخطرون ولا يجولون في الوجدان بكلّ عنادهم النضاليّ ومواقفهم البطوليّة ومبادئهم التي قاتلوا أعداءهم في الخارج والداخل من أجلها! فعندما تتأمّل ما يحيط بك من ويلات ومآسٍ تعتري أقطارنا العربيّة وعلى رأسها سوريا في برّ الشام، سوريا العربيّة الحبيبة – لا بدّ أن تتساءل أين برّ مصر – وما تضطرب فيه شعوبنا المنكوبة بكورونا الهمالة والرذالة والسفالة السلطويّة العربيّة والإسلاميّة، وبخاصّة ما يعانيه الفقراء والبسطاء من المشرّدين واللاجئين والمعذّبين في أصقاع المنافي، فإنّك لا بدّ أن تقلق على القضيّة الفلسطينيّة التي كان أبطالها يذودون عنها بالدم والمال، بالغالي والرخيص من أجل استردادها والعودة إليها بالقوّة كما أُخذت بالقوّة، ورحم الله الرئيس العروبيّ العظيم جمال عبد الناصر، والذي رغم النكسة التي مُني بها نظامه الوطنيّ وثقل الإحساس المرّ بالهزيمة في حزيران سنة 1967، والتي كان للخيانة في الداخل المصريّ وللتآمر في الخارج العربيّ، وفي المؤازرة الأميركيّة اللامحدودة للعدوان الإسرائيليّ دور كبير فيها، هادفين جميعًا إلى التخلّص من النظام الناصريّ الذي يرفض الانصياع لمشاريع الهيمنة الأميركيّة ولشروطها ويرفض التوسّع الكولونياليّ الإسرائيليّ، ذلك الرئيس العظيم الذي انتظره "ديّان" وزير الحرب الإسرائيليّ على الهاتف ليعلن استسلامه وقبوله بالشروط، وما زال "ديّان" ينتظر ولم يرّن الهاتف، بل جاءه الموقف القوميّ الشجاع والناصع رغم مرارة النكسة وشبح.
4
الهزيمة المهيمن من بيان قمّة الخرطوم سنة 1968: الذي أعلن ملخّصه الرئيس المكافح جمال عبد الناصر "لا مفاوضات ولا صلح ولا سلام مع إسرائيل". أمّا الرئيس الرذيل ومؤسّس الخيانة العربيّة أنور السادات "شرّ الخلف لخير السلف" هو الذي رفع سماعة الهاتف بعد عقد من الزمن وهتف في أذن "كيسنجر وديّان" "سأخون"، بعد انتصار مبرمج كما يبدو، كان للتحريك وليس للتحرير، فقد جمع كلّ أمجاد الكرامة المصريّة وأبا الهول والأهرام الثلاثة والنهر الخالد وباندونغ وجمال عبد الناصر والسدّ العالي والعلاقة المشرّفة مع الاتّحاد السوفييتيّ وعدالة القضيّة الفلسطينيّة والمواقف العربيّة الصلبة والنضاليّة، وضعها جميعًا في جعبة عزيزه "هنري كيسنجر" وفي "كامب ديفيد"، وفي سلّة مفاوضات الخيمة رقم (101) التي خانت دم الجنود الشهداء المصريّين والسوريّين والعرب، وبدلًا من إنجاز مكتسبات سياسيّة بعد الانتصار العسكريّ وإرغام إسرائيل على الانسحاب، بدّد الرئيس الأرذل انتصار أكتوبر سنة 1973، وباعه بثمن بخس، "بقفّة زبل" كما قلت في قصيدة لي بعنوان "أيّتها الديار العامرة .. ابشري بالخراب"، هرع "ذليل مصر" كما سمّاه بحقّ الصحفيّ علي عاشور في مقالاته الأسبوعيّة في جريدة "الاتّحاد" الحيفاويّة بعد الخيانة، هرع "داحلًا" كبرميل فارغ، "ساحلًا على مدّ بطنه" كرجل فاجأه الإسهال أو كامرأة فاجأها الحيض، وبدأت الأنظمة العربيّة "تدحل وتسحل وتدحل وتسحل" حتّى "اسْتَحْلَتِ الدحلان والسحلان" وصارت دول الخليج تستقبل الشقيق "الفاضل اللصّ غير الظريف نتنياهو" وزوجة الشقيق "سارة"ربّة الصون والويسكي والعفاف"في أروقة القصور السلطانيّة، ورجال الدين من المتطرّفين اليهود يُستقبلون في أروقة القصور الملكيّة والأميريّة، وترقص"شوالات الضريط" الخليجيّة البيضاء مع الدببة السوداء من المتطرّفين اليهود في "هرتسليا"، ووفود أبحاث علميّة وألعاب رياضية ووجبات خرائيّة و "بطيخ إمّسمر"، وصار العلم الإسرائيليّ بلونيْه: الأبيض والأزرق، ذو النجمة السداسيّة التي شبّهها ذات قصيدة الشاعر المصريّ صالح جودت ب "مفرغة القلب كالجمجمة" يرفرف بامتلاء وعجرفة في سماء قاهرة المعزّ، وعلى مرمى حجر من حجارة القبور الطاهرة لأحمد عرابي وسعد زغلول وعبد المنعم رياض وجمال عبد الناصر، ويرفرف الآن في عواصم أخرى وسيرفرف "والحبل عَ الجرّار" في عواصم "دالعة لسانها شرعة" و"ريالتها نازلة". حتّى غدا العالم العربيّ "سِددًا معرّمة من هالأُبَر المشرّمة"، والبرهان السودانيّ الأخير خير البراهين.. ولكن يبقى العظماء هم العظماء.