في المقال السابق من هذه السلسلة تحدثت عن "القيادة" في القطيع. كيف تتبلور ومن هم أصحاب الشأن في وجودها سواء كان القطيع نفسه أو الراعي الذي من مصلحته التعامل مع قيادة وليس مع كل القطيع. لذلك نجده يستعمل مختلف الوسائل والطرق لبناء علاقة وطيدة معها. يكون ذلك بالرشوة التي هي المال عند البشر والتي هي العلف عند الحيوان. فالراعي كثيراً ما يقطف من الأغصان العالية والمرتفعة أنضرها ويقدمه للقائد في القطيع ليكوّن معه علاقة صداقة (يُلَكّعُهُ في لغة الرعاة).
الصفة الثانية المشتركة لمختلف أنواع القطعان الحيوانية والبشرية والتي طرأ عليها تغيرات كثيرة في العقود الأخيرة نتيجة الجشع والركض وراء المادة هي:
ثانياً: الأمومة: غريزة الأمومة موجودة لدي كل الكائنات الحية. لدى الناس ولدى الحيوانات والطيور والزواحف والحشرات. هذه الغريزة تجعل الأم تحافظ على ابنها وتوفر له الغذاء والحماية حتى يكبر. وكما هو الحال عند الإنسان كذلك عند الحيوان فالأبناء والبنات يظلون حول الأم لجيل وجيلين وأكثر، تعرفهم ويعرفونها وتحافظ عليهم ويحافظون عليها. هذه العلاقة عند الإنسان خلقت العائلات والحمائل وعند الحيوان خلقت القطيع وحافظت على وحدته وتماسكه. هذا الواقع تغير بشكل جذري في العقود الأخيرة نتيجة لتدخل الراعي سواء كان فرداً أو دولة منتجة يهمها تصريف إنتاجها. تدّخل الإنسان كفرد أو كدولة جاء بقصد زيادة الربح. ففي القطيع صار الراعي يفطم الأبناء في فترة مبكرة ليكسب حليب الأم وليقصر فترة ما قبل الحمل وتحضير الأم للحمل الثاني. في البداية كان الفطام يتم بعد أربعين إلى خمسين يوماً من الولادة. هذه الفترة صارت تقل حتى أصبحت عملية الفطام تتم مباشرة بعد الولادة وخصوصاً بعد توفر مادة ما يسمى اللبى التي يحتاجها المولود في اليومين الأولين وتوفر الحليب المجفف مكان حليب الأم لفترة الأربعين يوماً التي تلي الولادة. أي أن المولود عند الحيوان لم يعد يرضع من أمه بتاتاً. لا يعرفها ولا تربطه بها أية علاقة. فيكبر وحيداً لا علاقة له بمن حوله ولا يركن إلى أحد لرعايته والدفاع عنه أو احتضانه.
الوضع عند القطيع البشري لا يختلف كثيراً. فحليب القنينة حل محل حليب الأم وفترة الرضاعة من الأم قَصُرت جداً لتصبح شهرين أو ثلاثة في أحسن الأحوال وخصوصاً عند الأمهات العاملات والمتعلمات وهي فترة الإجازة التي تُمنح لها. وهنالك من الأمهات من لا ترضع طفلها بتاتاً بدعوى أنه تعود على حليب القنينة من المستشفى حيث ولد. مع علمها أن كل البحوث أثبتت أن عملية الرضاعة ليست مفيدة للطفل فقط بل وللأم أيضاً ومن بين فوائدها أنها تمنع سرطان الثدي.
عدم إرضاع الطفل لحولين كاملين كما جاء في الدين له الكثير من العواقب السلبية التي تترك آثارها العميقة والأبدية على شخصيته وعلى العلاقة بينه وبين أمه. فالأم التي ذكرتها في مقالي الأول والتي جاءت تتنازل لنا عن أبنائها الثلاثة الذين كانوا دون سن العاشرة لم ترضعهم ولم تحتضنهم ولم تشم رائحتهم لتتغلغل في شرايينها. فلو فعلت ذلك لما استطاعت التخلي عنهم بتلك السهولة بل ولفدتهم بروحها. تلك الأم ليست حالة شاذة فالكثير من نسائنا العاملات، وخصوصاً في النظافة، تخلين عن أطفالهن وتركنهم لمصيرهم المجهول. لم يحضرن نهوضهم من النوم ولم يرافقنهم في وجبة الافطار. صحيح لم يسلمنهم لدوائر الشؤون الاجتماعية وإنما سلمنهم لظروف قاهرة لا تطاق وحرمنهم من الرعاية والأهم من ذلك من الحنان. الطفل الذي لم ير وجه أمه في عاميه الأولين ولم ينظر في عينيها سينمو نمواً غير طبيعي وستكون صحته النفسية غير سليمة حتى وإن كانت صحته الجسدية على ما يرام. من بين هؤلاء يخرج القتلة وسفاكي الدماء الذين لا يعرفون الرحمة, وفي أحسن الأحوال لن يكونوا أعضاء نافعين للمجتمع.
في القطيع الحيواني صارت الأم مكنة إنجاب. تنجب، وبعد شهر يعطيها الراعي الهرمونات لتحمل وتنجب مرة أخرى وهكذا. أي أن النعجة أو العنزة تنجب مرتين في السنة وفي كل مرة اثنين أو ثلاثة وربما أكثر. أما عند القطيع البشري فقد أصبحت الأم تنجب وتسلّمه للحضانة أو للمربية بعد ثلاثة أشهر الإجازة وقليلاً ما تتابع ما يحدث له لأنها تحولت إلى مصدر للمال وللكسب ولا وقت لديها للمشاعر والعواطف. وهنا نحن نقلد الغرب غير مدركين أنه مخطئ في هذا المجال ويدفع الأثمان الباهظة.
هذه الأوضاع في مجال الأمومة هي الأرضية المناسبة للفوضى وللخلل المجتمعي الذي نمر به هذه الأيام. فشبابنا من لم يكبر في الحضانة أو عند المربية كبر في عائلة كثيرة الأولاد ولم يحظ بأي رعاية مادية أو عاطفية وحاله كان أسوأ بكثير من حال من عاش في الحضانة أو عند الحاضنة .
هؤلاء الأيتام (رغم وجود آبائهم وأمهاتهم) لا يستطيعون تكوين مجتمع سليم متكامل متكافل ففاقد الشيء لا يعطيه. من هؤلاء من يتواجدون في الشوارع هذه الأيام مطالبين بالتغيير وهم لا يعرفون أي تغيير يريدون ناقمين على كل شيء ويتلاعب بهم تجار السياسة وبائعو الأوطان.
لم يعد المرعى يناسب القطعان الحيوانية وأصبحت بحاجة للحظيرة حيث يقدم لها العلف المصنع الذي يدر الأرباح الهائلة على الشركات المصنِّعة. تماماً كما لم تعد الحياة المجتمعية مناسبة للقطعان البشرية التي تركت العمل بالأرض بسبب تفكك الأسرة وعدم التعاون بين الآباء والأبناء وغياب الجهة الداعمة. ولتعلقها وإدمانها المنتجات الصناعية فصار الفرد يركض ليل نهار لضمان الحصول عليها كل يوم بيومه. فزراعة القمح مثلاً أصبحت تهديدا استراتيجيا للأمن القومي للدول المصدرة. وهي أحد أسباب الهجمة العالمية على سوريا. فالعمل في الزراعة يحافظ على ترابط الأسرة ويوفر لها الاكتفاء الذاتي والاستقلال. وهذه جميعها تتناقض مع مصالح الدول الصناعية المصدرة والمستعمِرة التي تريد أسواقاً لمنتجاتها وتريد من شعوبنا أن تظل مستهلكة لهذه المنتجات إلى أبد الآبدين.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com