الدولة المدنية الديمقراطية يحكمها سيادة القانون. وهي دولة علمانية تكون على مسافة واحدة من جميع المعتقدات والأديان. فقط القانون هو الفيصل بين المواطنين.
ولتبسيط الأمر للقارئ الذي التبست عليه متطلبات الدولة مع متطلباته الدينية والعائلية والقبلية، اجتهدت شخصياً في وضع تصنيف بسيط ليس له علاقة بأي تصنيف عالمي أو علمي للمواطنة، وقمت بوضع ثلاثة مستويات أساسية لتصنيف المواطنين فيها في الدولة المدنية:
(-) المواطن السيء: اللون الأسود
المواطن الملتزم: اللون الأخضر
(+) المواطن المثالي: اللون الأبيض
المواطن السيء أو الشرير هو الذي لا يتبع قوانين الدولة أو يخرق بعضها، كأن يسرق أو يقتل، أو لا يدفع الضرائب ويتهرب منها، أو يعمل في التهريب أو يتاجر في المخدرات. وهذا المواطن سيء أو سلبي تجاه الدولة لأنه يضر بالمواطنين ولا يقوم بالتزاماته تجاه الدولة ومؤسساتها. وهؤلاء الأشرار أو المواطنين السيئين هم عادة أقلّة في الدولة المدنية. صحيح أنهم أحيانا يجنون أموالا طائلة بتهربهم من الضريبة أو سرقاتهم، وكل ما يفعلونه ضد القانون أو الالتفاف عليه، ولهذا يصنفون في أسفل أسطوانة المواطنة في الدولة المدنية.
أما المواطن الملتزم أو الصالح أو المحترم أو الجيد فهو المواطن الذي يلتزم بجميع قوانين الدولة، فيبني بيته حسب القانون ولا يسرق المواطنين أو الدولة ولا يرتكب أي جنح قانوني ولا يؤذي جاره ويسوق برخصة سارية المفعول ويضع حزام الأمان عند السياقة ويضع كرسي الأطفال في المقعد الخلفي للسيارة لطفله حسب قوانين السير ولا يرمي النفايات من شباك السيارة أو خارج الحاوية ويدفع الضرائب في وقتها. لا يغش في البيع ولا يكذب ولا يقوم بالتزييف أو خداع المواطنين أو الدولة. لا يتهرب من الجمارك، ولا يقوم برشوة موظف الدولة لمضاعفة أرباحه بالطرق الملتوية. باختصار هذا المواطن يسير تماما كما تنص عليه قوانين الدولة، دون نقصان أو زيادة. فكما أنه لا يسرق أو يغش المواطنين، فهو لا يقوم بأي عمل خير إضافي لجاره أو يتطوع في أي نشاط خيري للدولة والمواطنين. يقوم بما عليه من واجبات، ويأخذ ما له من حقوق من الدولة والمواطنين. وهو في اللون الأخضر في منتصف الأسطوانة. هو إنسان معتدل وسطي ملتزم، ولا يريد أن يكون أكثر من ذلك. يريد أن يحيا كأي إنسان آخر ويسعد في حياته دون تحمل أعباء لا يجب أن يتحملها. وهذا هو المطلوب من مواطنين الدولة المدنية: أن يفوا بالتزاماتهم ويأخذوا ما لهم من حقوق. وليس مطلوب أكثر من ذلك كفرض أو واجب. الشيء الإلزامي هو فقط اتباع قوانين الدولة، وعدا ذلك من أعمال خير فهو ليس إلزاميا. مطلوب من مواطنين الدولة المدنية أن يكونوا في وسط هذه الأسطوانة. والواقع أن هذا هو الحال في معظم مواطني الدول الديمقراطية المدنية. فالمواطن المحترم هو المواطن الذي يحترم القانون.
أما المواطن المثالي الموجود في أعلى الأسطوانة في جزء اللون الأبيض، فهو ذلك المواطن الذي ليس فقط يتبع قوانين الدولة المدنية، بل يفعل أكثر من ذلك. فهولا يدفع فقط الضريبة التي عليه، بل يتبرع بالمال للفقراء ومدارس الأيتام والعجزة وللدولة ومرافقها ومستشفياتها ومدارسها. هو ليس فقط لا يرمي النفايات أمام منزل جاره ويلتزم بالقانون، بل إذا رأى نفايات أمام منزل جاره أو في الشارع يلتقطها ويضعها في الحاوية. هذا الشخص تربى على العطاء اللامحدود دون انتظار شكر من أحد. هذا الشخص ينتظر كل فرصة للتطوع لعمل الخير للبلد وللإنسانية. وهذه الطبقة الرائعة الخيرة قليلة في معظم المجتمعات، فقلما نجد من يتبرع بجزء كبير من ماله للدولة أو للجمعيات الخيرية، حيث أن معظم الناس تعمل ليل نهار لتستطيع أن تعيش وتفي بالتزاماتها تجاه الدولة. ولا شك أنّ عمل الخير شيء ممتاز، والتبرع والتطوع قيم سامية يجب تشجيع الجميع عليها، ولكنها ليس إلزاما على الناس حتى لا نثقل عليهم في حياتهم. من يريد أن يدفع للدولة فوق الضرائب التي يدفعها فليفعل، ولكن لا نلزم الناس بذلك، ولا نلزم الناس بالتطوع لعمل الخير ومساعدة الدولة والمواطنين. لذلك نعطي لهذه الطبقة اللون الأبيض وإشارة زائد (+)، لان هذا عمل إضافي رائع ولكنه غير ملزم للناس.
هذه هي تقسيمة المواطنين وتصنيفهم في الدولة المدنية الديمقراطية التي يسودها القانون بالتساوي على الجميع بدون تفرقة بسبب جنس أو لون أو قومية أو دين. وفي الدولة المدنية العلمانية كل القوانين أرضية وليس لها علاقة بالسماء أو بالديانات والغيبيات. فالضريبة واجبة على جميع المواطنين، المسلم والمسيحي واليهودي والملحد، بذات الدرجة. لا يوجد أي نوع من الضرائب أو الرسوم على أصحاب ديانة معينة أكثر من ديانة أخرى. فلا يوجد تمييز إيجابي أو سلبي بسبب أي معتقد أو ضد أي دين.
والتدرج من أسفل الأسطوانة من المواطن السيء في طبقة اللون الأسود، حتى يصبح مواطن محترم في الطبقة الوسطى الخضراء من الأسطوانة، وحتى يصعد إلى أعلى درجات عمل الخير في الدولة، يتطلب من الموطنين الالتزام بقوانين الدولة المدنية والقيام بأعمال مادية خيرية تساعد الدولة والمواطنين. وليس له علاقة بالديانات أو القيام بشعائرها. فالمسيحي الذي يصلي في الكنيسة أو المسلم الذي يصلي في المسجد لا يؤثر على الدولة إيجابا أو سلبا لذلك فالصلاة والعبادة والدعاء لا ترفع المواطن أو تنزله في (أسطوانة) الدولة المدنية. ولذلك سواء كان الشخص متدين أم غير متدين، فهذا ليس له علاقة بكونه مواطناً صالحا أو محترما في الدولة. الاحترام والصلاح هو بالالتزام بالقوانين ومن يريد أن يزيد فبكل ترحيب. فالتدين حرية شخصية وأمر شخصي لا تتدخل به الدولة المدنية، فلا تكون معه أو ضده، وإذا نتج أعمال خيرية عن هذا التدين فيتم الترحيب به، أما إذا قام بعض المتطرفون باسم دين معين بمخالفة قوانين الدولة أو الاعتداء على الآخرين فتتصدى لهم الدولة بكل حزم، مثل أي شخص آخر ينتهك القانون.
وهذا التصنيف الذي قمت بشرحه ببساطة من خلال هذه الأسطوانة ثلاثية المستويات والألوان، هدف إلى الشرح للمواطن البسيط أين هو وأفعاله ومعتقداته من الدولة المدنية. فالمواطنة عقد بين الدولة ومواطنيها، ولها متطلبات – حقوق وواجبات مدنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. فالمواطن عليه واجبات للدولة ولكنه ليس عبداً عندها، فهوا لديه حقوق أيضا والدولة ملتزمة له بتلك الحقوق. وهذا التصنيف الذي قمت بتبسيطه قدر ما استطعت في هذا المقال ليس له علاقة بتصنيفات عديدة للمواطنين في الدولة المدنية من قبل كتاب ومفكرين مشهورين أمثال توماس جانوسكي الذي قام بتصنيف أنماط المواطنة إلى ستة أقسام اعتمادا على مشاركة المواطن في الحياة العامة وفي السياسة وفي حياة المجتمع المحلي.
ولا شك أن فهمنا للمواطنة يجب أن يشمل دورها في تعزيز النظام الأخلاقي للدولة، الذي يعتمد أساسا على النظام القانوني وتنفيذه على الأرض. حيث يلمس المواطنون المساواة والعدل في دولتهم نتيجة سيادة القانون، ولذلك يشعرون بدورهم التشاركي في دعم ركائز الدولة الديمقراطية وترسيخ مقوماتها، لأن الدولة دولتهم ومصلحة المواطنين هي مصلحتهم، والتشارك في حمل المسؤوليات الجماعية يجب أن يعكس نفسه على المشاركة في جني ثمار المواطنة من توفير للأمن وللحياة الكريمة وكافة الحريات والحقوق. وفهم المواطنة من قبل المواطنين يشعرهم أنهم عائلة واحدة متكافلة متضامنة. بينما تكون أروع الإنجازات الأخلاقية التي قد يقوم بها المجتمع والدولة هي التعددية وقبول الآخر واحترام الأقليات ومساعدة الأقل حظا وذوي الاحتياجات الخاصة والمسنين. فتتجلى علاقة الدولة بالمواطنين في أخلاقيات النظام الاجتماعي في إسناد النظام التعليمي والنظام الصحي لكافة الفئات، وبدلاً من التهرب الضريبي تجد يافطات أسماء المتبرعين تملؤ المستشفيات والجامعات. وهذا لا يتسنى كله في الدولة المدنية، بدون الشرط الأساسي في قيامها وهو الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية حتى يتم الحد من الفساد المالي والسياسي قدر الإمكان، من أجل أن يطمئن المواطن أن أمواله وضرائبه وتبرعاته تذهب إلى مبتغاها وليس في جيوب الفاسدين.
نتحدث كثيرا في دولنا العربية عن الوطنية أي مشاعر حب الوطن والارتباط به، إلا المواطنة مفهوم أشمل لا يتعارض مع الوطنية وإنما يكرّس معاني الانتماء والتضحية والعطاء للوطن في اتجاهين وليس اتجاه واحد. لأن حب الوطن هو حب المواطن لبلده، أما المواطنة فهي علاقة ممنهجة وممأسسة بين المواطن والدولة. حب وعطاء وانتماء من جهة المواطن، يقابلها مشاركة سياسية وحقوق انتخابية وحريات مستحقة على الدولة التي يجب أن تعمل تحت أعين المواطنين لا فوق رؤوسهم. ولا يكون الانتماء للوطن ولا تكون المواطنة بديلاً أو على حساب الانتماء للعرق أو القبيلة أو الدين أو الحزب السياسي، والعكس صحيح. فيجب ألا يؤثر انتماء المواطن لأي من التيارات أو الطبقات المجتمعية والحركات الدينية بشكل سلبي على مواطنته في دولته، أي على الحقوق التي يجب أن يؤديها تجاه الدولة وفي احترام القانون. المطلوب منك أن تكون مواطناً ملتزما – في الطبقة الوسطى الخضراء في الأسطوانة – ملتزماً بقوانين الدولة، ثم بعدها افعل ما شئت من قول أو عبادة أو فعل لا يتعارض مع قوانين الدولة. فلك الحرية في التعبير عن رأيك ومعتقداتك، والكتابة كما تريد، وإنشاء الأحزاب السياسية، وممارسة كافة أنواع الحريات التي تسمح لك بها الدولة الديمقراطية المدنية. والحريّات سقفها السماء بما لا تتعدى على حقوق وحريات الآخرين.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com